أيضاً يطرح سؤال آخر وهو: متى ليلة القدر؟ للعلماء فيها أقوال متعددة متكاثرة، وصلت إلى ثمانية وأربعين قولاً، لكن قد تتكاثر الأقوال في باب من الأبواب، وإذا جئت تبحث عن الأقوال المدعمة بالدليل، والمستندة إلى دليل، فتجد أنها لا تصل إلا إلى خمسة أقوال، ثم إذا جئت تصفي هذه الأقوال تجد الأقوال المستندة إلى دليل صحيح تصل إلى ثلاثة أقوال، فلا تخيفنا كثرة الأقوال في مسألة من المسائل، بل بكل يسر نقول: كل قول لا يستند إلى دليل فيطرح، سواء كان الدليل صريحاً غير صحيح، أو صحيحاً غير صريح، ونبدأ في تصفية الأقوال التي لا تستند إلى دليل.
قال جمهور العلماء: إن هذه الليلة في رمضان؛ لقوله تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، ولقوله تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}[البقرة:١٨٥] ، فبالجمع بين الآيتين يفهم أن ليلة القدر في رمضان، فخرج بهذا القول كل قول قيل فيه: إنها في أي وقت من أوقات السنة؛ لأن بعضهم قال: إنها في أي شهر من الشهور وفي أي ليلة من الليالي، فخرج كل قول يخرجها عن شهر رمضان، ثم هي في العشر الأواخر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(التمسوها في العشر الأواخر من رمضان) ، فخرجت أيضاً الأقوال التي فيها أنها في العشرين الأول، ثم هي في الوتر من العشر الأواخر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(التمسوها في عشر يبقين، في سبع يبقين، في خمس يبقين، في ثلاث يبقين) ، ولقوله عليه الصلاة والسلام:(التمسوها في كل وتر من العشر الأواخر) .
وبعد ذلك قال فريق من العلماء: إنها في ليلة السابع العشرين، وهذا رأي الجمهور، قالوا: لأن أبي بن كعب روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، كما في صحيح مسلم، ومن حجة أبي أن الشمس خرجت صبيحتها بيضاء نقية، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن هل هذا يكون في كل عام في ليلة السابع والعشرين، أم أنه في العام الذي رآها فيه أبي بن كعب رضي الله عنه؟ نحن ما كذبنا أبياً، ولكن نقول: هل هي ثابتة في كل عام في ليلة السابع والعشرين أم أنها متنقلة في الليالي التي هي وتر؟ ومما لا يخفى أن شؤم الخلاف بين المسلمين كان سبباً في رفع العلم بليلة القدر؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليخبر أصحابه بليلة القدر، فتلاحى رجلان فلانٌ وفلان، أي: اختلفا وتجادلا وتخاصما، فرفع العلم بها، فخرج النبي فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت) .
فالخلاف دائماً سبب في رفع الخير، وقد تقدم أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بين أن الخلاف سبب للشر، فقال: يوم الخميس وما يوم الخميس؟ دعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال:(هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً) ، فقال عمر: حسبنا كتاب الله، وكان النبي في مرض الموت، فظن أنه يقول هذا الكلام من شدة المرض فقال: حسبنا كتاب الله، وقال العباس: بل قربوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، فاختلف الناس، فلما اختلفوا طردهم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال:(قوموا عني، فوالله للذي أنا فيه خيرٌ مما أنتم فيه) ، قال ابن عباس: إن الرزية كل الرزية -أي المصيبة كل المصيبة- ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لأصحابه ذلك الكتاب.
فالخلاف دائماً سبب في الشر، والأدلة على ذلك لا تكاد تحصى؛ كقوله تعالى:{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران:١٠٥] ، {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال:٤٦] ، والآيات متعددة في هذا الباب.