للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[على الداعية البلاغ والهداية على الله]

قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} [نوح:٥-٦] .

الآية الكريمة أفادت أصلاً مقرراً دلت عليه كثير من الأدلة، وهو أن المهدي من هداه الله، وليست الهداية بذكاء الداعي ولا بحكمته، وإنما الذكاء والحكمة سبب قد ينجح وقد لا ينجح؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أعقل الخلق، وأعلم الخلق بالله، وأورع الخلق، وأذكى الخلق، ومع ذلك يقول نوح عليه السلام: (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا) ، في ألف سنة إلا خمسين عاماً {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} فدعاهم ليلاً ونهاراً.

فكون الهداية بيد الله تعالى أصل لابد أن يفهم تمام الفهم، فدعوة نوح عليه السلام لقومه لم تفلح، ودعوته لابنه وامرأته لم تفلح، ودعوة إبراهيم لأبيه لم تفلح، ودعوة لوط لزوجته لم تفلح، ودعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لعمه لم تلفح.

فمرد الهداية إلى الله تعالى لا إلى ذكاء الشخص، ولا إلى كفاءة الشيخ ولا العالم، وإنما هي أسباب علينا أن نأخذ بها، فنأخذ بالحكمة في الدعوة إلى الله تعالى، ونأخذ باللين وبكل السبل التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع اعتقادنا تمام الاعتقاد أن الهداية مردها إلى الله تعالى، وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس:١٠٠] .

فنوح عليه السلام يخبر أن دعوته قومه لم تنفع فيهم شيئاً، بل ازدادوا بعداً بسبب دعائه، وهكذا الآيات حين تنزل على الرسل فيزداد بها المؤمنون إيماناً، ويزداد بها الكافرون كفراً، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:١٢٤-١٢٥] .

وإنما نوع لهم الدعوة في الليل والنهار والسر والعلن حتى لا يملوا، فإن خافوا من الفضيحة في دعوة العلن فقد دعاهم أيضاً في السر، ودعاهم في الليل، ودعاهم في النهار، ودعاهم فرادى، ودعاهم جماعات.

{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:٧] ، أي: ليؤمنوا فتغفر لهم، وقوله تعالى: (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ) ، فيه تصوير مدى البعد الذي كان فيه قوم نوح، ومعنى قوله تعالى: (وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ) ، أي: تغطوا بثيابهم، (وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) .

وقد حكى الله تعالى عنهم قولهم: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود:٣٢] .

ثم قال تعالى عن نوح عليه السلام: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح:٨-٩] ، وفيه بيان كل الطرق التي سلكها نوح صلى الله عليه وسلم معهم، ولكن الهادي هو الله سبحانه.