للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيداً)

باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد: فيقول الله سبحانه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} [المدثر:١١-١٥] .

قوله تعالى: (ذرني) أي: اتركني، ومن خلقته وحيداً، في قوله تعالى: (وحيداً) معنيان للعلماء: المعنى الأول: ذرني ومن خلقته فرداً وحيداً في بطن أمه.

والمعنى الثاني: ذرني ومن خلقت وحيداً يوم القيامة، يوم يأتي لا ناصر له ينصره مني، ولا مغيث يغيثه مني.

أي: اتركني مع هذا الرجل، يوم يأتي لا ناصر ينصره ولا شفيع يشفع فيه، ويأتي وحيداً يوم القيامة.

(ومن) بمعنى: الذي، أي: ذرني والذي خلقت وحيداً.

ومن المعني بقوله تعالى: (ومن خلقت وحيداً) ؟ أكثر المفسرين أنه الوليد بن المغيرة والد خالد بن الوليد، وكل ما جاء بعد هذه الآية صفة له.

ومن العلماء من قال: هي عامة في كل كافر.

قال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:١١] ، هذا المراد منه التهديد، كما قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم:٤٤] ، وكما قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} [المزمل:١١] ، فكل هذه المراد منها التهديد.

{وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} [المدثر:١٢] ، (ممدوداً) أي: كثيراً واسعاً، ومنه قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم:٧٥] ، فالمراد بالمد هنا: الزيادة، أي: من كان في الضلالة فزاده الله ضلالاً إلى ضلاله.

قال تعالى: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} [المدثر:١٢] أي: كثيراً واسعاً، {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} [المدثر:١٤] أي: مهدت له في هذه الحياة تمهيداً، {وَبَنِينَ شُهُودًا} [المدثر:١٣] ، والبنين الشهود: الشهود بمعنى: الحضور، ويراد بالشهود في بعض الأحيان: الشهود على الجرائم وعلى الأحداث، لكن المراد بالشهود هنا الحضور، وهذا المعنى قد تقدم عند قوله تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:٣] ، هل شاهد ومشهود معناها: راءٍ ومرئي أو معناها: حاضر ومحضور؟ تقدم التفصيل في ذلك.

قال تعالى: {وَبَنِينَ شُهُودًا} [المدثر:١٣] ، فمن نعم الله عليه أن الله سبحانه وتعالى رزقه بأولاد ذكور، وجعلهم شهوداً بجواره، ليسوا في حاجة إلى السفر بعيداً عنه؛ لأن كل ما يحتاجه هو وأولاده متوافر عنده.

فمن نعم الله على هذا الرجل: أن الله رزقه بأموال كثيرة جعلت أولاده لا يحتاجون إلى سفر، فالسفر قال عنه عليه الصلاة والسلام: (السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه، فإذا قضى أحدكم نهمته فليرجع إلى أهله) .

فهذا الرجل امتن الله عليه بأولاد ذكور ليسوا في حاجة إلى سفر، لا للتجارات ولا للسعي على المعاش ولا لغير ذلك، فهم موجودون حوله يأكلون ويشربون ويتزوجون وينعمون، وليسوا في حاجة إلى الأسفار، فعينه تقر برؤية أبنائه بجواره.

فأفادت الآية الكريمة أن الذين يسافرون يتركون أثراً على قلوب آبائهم وعلى قلوب أمهاتهم، فمن نعم الله على هذا الرجل أنه لم يجعله في حاجة إلى أن يبتعد عنه أولاده.

{وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} [المدثر:١٣-١٤] أي: وسعت له توسعة، {ثُمَّ} [المدثر:١٥] بعد هذه النعم {يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا} [المدثر:١٥-١٦] أي: لن نزيده، {إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر:١٦-١٧] ، الإرهاق: التعب، (سأرهقه) : سأحل به التعب، تعب الصعود، وقد تقدم في تفسير سورة الجن، أن الله قال: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن:١٧] ، وهنا قال تعالى: (سأرهقه صعوداً) ، فمن العلماء من قال: إن الصعود: جبل في جهنم يعذب الشخص بصعوده عليه والنزول منه، فدلت هذه الآية على أن الصعود نفسه نوع من أنواع العذاب، وهذا ملاحظ كما قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:١٢٥] ، وأنت إذا صعدت إلى الطابق الخامس أو الطابق السادس تكون متعباً ومرهقاً، وكلما ارتفعت في الطوبق ازددت إرهاقاً، وأنت مستعد أن تمشي خمسة كيلو مترات ولا تصعد إلى الطابق العشرين مثلاً، فالصعود في نفسه نوع من أنواع التعذيب.