للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة]

{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢-٢٣] ، في هذه الآية قاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة، وهي: رؤية الرب عز وجل يوم القيامة، فمن الأصول عند أهل السنة: أن أهل الإيمان يرون ربهم يوم القيامة، وهذا أصلٌ تخالف فيه عدة فرق من فرق الزيغ.

أما الأدلة على هذا الأصل: فمن كتاب الله هذه الآية الكريمة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} ، أي: بهيجة حسنة علتها النضرة، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .

فقوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .

من المفسرين من حاول أن يفسر الناظرة بمعنى: المنتظرة، حتى ينفي مسألة الرؤية يوم القيامة، وقال: إن ناظرة هنا معناها: منتظرة بدليل قوله تعالى في سورة النمل حكاية عن ملكة سبأ: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:٣٥] ، فقالوا: إن قولها: (فناظرة) أي: منتظرة، قالوا: فكذلك هنا قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، ويرد عليهم أولاً: أن أهل اللغة فرقوا فقالوا: إن هناك فرقاً بين قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، وبين قولها: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:٣٥] .

وخيرٌ من هذا أن يقال: إن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فسرت ما أجمل من الكتاب، فقد ثبت في الصحيحين من عدة طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم عياناً) .

وسئل النبي صلى الله عليه وسلم سؤالاً صريحاً: (هل نرى ربنا يوم القيامة يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هل تضارون في رؤية القمر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله) ، أي: هل يقع عليكم ضرر في رؤية القمر إذا كانت الليلة صحوة وليس هناك سحاب، قالوا: لا يا رسول الله، حتى وإن كان هناك زحام فإنك تنظر إلى الأعلى فترى القمر، قال: (هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فإنكم ترون ربكم كذلك سبحانه وتعالى) .

ومن الكتاب العزيز أيضاً: قال الله سبحانه وتعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:٢٦] ، ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه من طريق حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتدرون ما الزيادة؟ إنها النظر إلى وجه الله تعالى) .

وهذا الحديث الذي فيه تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله قد انتقده بعض أهل العلم على الإمام مسلم كـ الدارقطني رحمه الله، فقال ما حاصله: إن الصواب فيه أنه من كلام عبد الرحمن بن أبي ليلى، ولم يتعد به إلى صهيب ولا إلى رسول الله، والواصل هو حماد بن سلمة -على ما يحضرني- والذي أوقفه هو حماد بن زيد على ما أذكر، والله أعلم.

إلا أن جمهور المفسرين في تفسير قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:٢٦] ، على أن الزيادة هي النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى.

واستدل أيضاً على هذه الرؤيا، بالمفهوم المخالف في قوله تعالى في شأن الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:١٥] ، قالوا: فأهل الإيمان ليسوا بمحجوبين عن ربهم سبحانه وتعالى.

فهذه أصول استدلالات أهل السنة في هذا الباب.

أما المعترض على الرؤية فيقول: إن الله سبحانه وتعالى قال لموسى عليه الصلاة والسلام: (لن تراني) وذلك لما سأله رؤيته فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣] ، فقالوا: إن (لن) تفيد التأبيد، فما دامت تفيد التأبيد إذاً لم تحدث الرؤيا ولن تحدث.

فأجيب عليهم: إن سلمنا أنها تفيد التأبيد، فهذا التأبيد في الدنيا، فلم ير أحد ربه فيها، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان يحذر أمته من الدجال: (اعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) ، فإذا قال شخص: هل نرى الرب؟ نقول له: نحن لا نرى الرب حتى نموت، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.

واحتج النافون بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣] ، قالوا: فمن ثم لن يرى؟ فأجاب أهل السنة على ذلك بما حاصله: إن الإدراك شيءٌ أخص من الرؤيا، فقد أراك من بعيد لكن لا أدركك، قال الله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} [الشعراء:٦١] ، أثبتت الرؤية، {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا} [الشعراء:٦٢] ، فحصلت الرؤية ولم يحصل الإدراك، فهناك فرقٌ بين الإدراك والرؤية.

وقد دارت نادرة بين سني ومعتزلي في اليمن، لما قال: السني: نحن سنرى ربنا يوم القيامة، فقال المعتزلي: لم نر ربنا يوم القيامة؟ وطالت الإيرادات وطال الجدل بينهما، فقال: السني: نأتي إلى كلمةٍ سواءٍ فيما بيننا: نحنُ نرى ربنا وأنتم لا ترون ربكم! ونحل الإشكال على هذا.

قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢-٢٣] ، ترى ما الذي جعلها ناضرة؟ إنه إيمانها بالله، وتلاوتها لكتاب الله، وحملها أيضاً لسنة رسول الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها) ، ونضرها أيضاً للوضوء كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل: (كيف تعرف أمتك من بين الأمم يا رسول الله يوم القيامة؟ فقال: إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء) .

قال تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة:٢٤] .

أي: كالحة مسودة، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر:٢٢] ، أي: قطب جبينه، وبسر، وكلح بوجهه.

قوله: {تَظُنُّ} [القيامة:٢٥] أي: توقن، فالظن هنا: بمعنى اليقين، وقد تقدم نظير هذا عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:٤٦] ، {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:٢٠] ، أي: أيقنت.

فمعنى قوله: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} ، أي: كالحة سوداء، مقطبة الجبين، {تَظُنُّ} ، أي: توقن: {أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة:٢٥] ، أي: أيقنت هذه الوجوه أنها فاقرةً، والفاقرة هي: المصيبة الكبرى التي تكاد تكسر فقار الظهر، فيظن أصحاب هذه الوجوه ويوقنون أن مصيبة من هذه المصائب ستحل بهم في هذا اليوم، أي: يوم القيامة.