وقوله تعالى:(مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) أي: لم تكونوا -يا أهل الإيمان- تتوقعون في يوم من الأيام أن هؤلاء اليهود سيخرجون من ديارهم لقوة حصونهم ولشدة بأسهم، فقد كانوا متحصنين وأقوياء، لهم حصون شديدة منيعة، ونخل باسقات لها طلع نضيد، وكانوا ذوي رسوخ في بلادهم، وذوي صداقات مع أهل الكفر وأهل النفاق، فقد أسسوا صداقات مع عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق، وأسسوا صداقات ووثقوا علاقات مع سائر قبائل الكفر، ومع سائر الأحزاب المتألبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي بلادهم كانوا مُمَكَّنين، ومع جيرانهم كانوا متظاهرين ومتعاونين ومتحالفين، فلم يكن يخطر ببال أحد أنهم سيجلون عن مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم قال الله سبحانه وتعالى:(مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) ، فعلى المسلم ألا ينقطع أمله أبداً في الله سبحانه، ولا ينقطع رجاؤه أبداً في الله سبحانه وتعالى، فالذي أخرجهم مرة قادر على أن يخرجهم مرات، وقد قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:{وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا}[الإسراء:٨] ، وقال تعالى عن الحجارة المرسلة على مدائن قوم لوط:{وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}[هود:٨٣] .
وقوله تعالى:(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ) أي: أيقنوا، والظن هنا بمعنى: اليقين؛ إذ الظن ظنان: ظن بمعنى اليقين، وظن بمعنى الشك، ويأتي في كتاب الله تعالى بأحد المعنيين، فقد يأتي بمعنى الشك كما في قوله تعالى:{إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}[يونس:٣٦] ، وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}[الحجرات:١٢] ، وأحياناً يأتي الظن بمعنى اليقين كقوله تعالى:{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا}[الكهف:٥٣] أي: أيقنوا، {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ}[الحاقة:٢٠] .
أي: أيقنت، وقوله تعالى:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة:٤٦] أي: يوقنون، فاليهود هنا كانوا مستيقنين أنهم لن يُخرَجوا أبداً لقوة حصونهم وشدة منعتهم، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، أي: من مكان ومن مصدر لا يتوقعونه، فقد تأتي البلايا إلى الشخص الظالم المبير من حيث لا يحتسب، كما قال تعالى:{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}[النحل:٢٦] ، فالظالم قد يحتاط من باب من الأبواب، ويحرص غاية الحرص على غلق هذا الباب حتى لا يأتيه منه الشر والبلاء، فإذا بالبلاء يأتيه من باب آخر لم يكن يتوقعه، ولم يكن يتخيله! أما المؤمن فهو محفوظ بحفظ الله سبحانه وتعالى، بل يأتيه رزقه من حيث لا يحتسب، كما قال الله سبحانه:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}[الطلاق:٢-٣] .
وقوله تعالى:(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) الرعب سلاح قوي أيد الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال:(أُعطِيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر ... ) الحديث، أي: يكون بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين العدو مسيرة شهر، ويقذف الله عز وجل في قلب العدو الرعب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قُذِف الرعب في قلب العدو؛ انهارت قواه، وتفتتت سواعده، وكانت الهزائم من نصيبه.
وقوله تعالى:(يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) وجه ذلك أن الصلح الذي صالحهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من بنوده: أن يحملوا معهم من المتاع ما أقلته ركابهم، وحملته خيولهم، فكانوا ينتقون أثمن شيء وأعز شيءٍ في البيت ويأخذونه، فإذا رءوا عِرقاً قوياً من خشب هدموا السقف حتى يأخذوا هذا العِرق، ولا يتركوه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان تخريب البيوت بأيديهم من ناحية، وبأيدي المؤمنين من ناحية أخرى.