[دعوة يوسف للمسجونين إلى توحيد الله وعبادته]
{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف:٣٩] ، وهذا من حسن الأدب في الخطاب، فيذكر هنا بشيء جامع له معهما، أي: يا صاحباي في السجن، وهذه لها أثرها في التأثير في النفوس، كما تقول: يَبْنَؤُمَّ! فتذكره بالرابطة التي بينك وبينه، أو: يا ابن أخي! يا ابن بلدي! يا مسلم مثلي! فكلها روابط تجعل النفس مؤهلة لقبول ما سيلقى عليها.
{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} ، يا من ابتليتما مثلي بالسجن! فهذه رابطة يثيرها يوسف صلى الله عليه وسلم، وهكذا ينبغي أن نثير الروابط التي تفتح الصدور عند الخطاب، فإن الأنفس جبلت على التقارب من مثيلها ونظيرها، {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:٣٩] ، أآلهة متعددة خير أم إله واحد؟ من نطيع من هؤلاء الأرباب؟ إن الله سبحانه ضرب مثلاً للموحد مع المشرك، فقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} [الزمر:٢٩] ، أي: عبد يتنازعه جملة من السادة، {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [الزمر:٢٩] ، أي: رجلاً يتلقى أوامره من رجل واحد، وآخر يتلقى أوامره من عشرة، هذا يقول له: افعل كذا، وهذا يقول له: بل افعل كذا، وثالث يقول له: بل افعل كذا، فإذا أطاع هذا أضر به ذاك، وإذا أطاع هذا أضر به الآخر، فأيهما أسلم وأحكم: أن أتبع إلهاً واحداً أم آلهة متعددة؟ وليس ثَم إله إلا الله فلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، وكما قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:٤٢-٤٣] .
{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:٣٩] ، الذي قهر كل شيء، وخضع له كل شيء، ثم قال: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [يوسف:٤٠] ، أسماء لا حقيقة لها، ولا تأثير لها، سميتموها واختلقتموها وادعيتم لها الربوبية، وليست من الربوبية في شيء، وليست من الألوهية بمكان، {مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف:٤٠] ، فما أنزل الله في كتابه: أن اعبدوا اللات أو العزى، أو مناة الثالثة الأخرى، أو هبل، أبداً، ما أنزل الله ذلك في كتابه، ولا أنزل الله على لسان رسله: أن ادعوا الولي الفلاني من دون الله وإلى من كان يتقرب الخليل إبراهيم؟ وماذا قال الخليل إبراهيم؟ {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:٨٠-٨١] سبحانه وتعالى جل شأنه وعز جاهه.
{مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} ، وليس ثم حجة على ربوبيتها، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:٤٠] ، الأمر والقضاء لله، والحكم حكمه، والخلق خلقه، والقضاء قضاؤه، والتشريع شرعه سبحانه وتعالى، {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف:٤٠] ، القويم المستقيم، الموصل إلى مرضاة الله، (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أن نفرد الله بالألوهية وبالوحدانية، وأن نتحاكم إليه وحده لا شريك له.
قال الله تبارك وتعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} ، وحق ما قاله ربنا؛ فأكثر الناس جهلة، وأكثر الناس في شرك وضلال، كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:١٠٣] ، وكما قال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:١٣] ، وكما قال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:١١٦] ، وقال عليه الصلاة والسلام: (عرضت علي الأمم فرأيت النبي يمر ومعه الرجل، والنبي يمر ومعه الرجلان، والنبي يمر ومعه الرهط، والنبي يمر وليس معه أحد) ، ففي هذا تعزية وتسلية لأهل الإيمان، فأهل الإيمان أقلة، أهل الإيمان قلة على مستوى أو على مدار القرون والعصور، فلتتعز ولتتسل بقلة أهل الإيمان في كل زمان وفي كل مكان، وكما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (ما أنتم في سائر الأمم إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض) .
قال تعالى: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} ، فهم في غمرة ساهون، جهلة بعيدون عن الصواب والحق.
ثم بعد هذا التقرير والتمهيد في أبواب التوحيد، لم يكن ليوسف عليه السلام أن يغفل دعوة التوحيد؛ فهؤلاء جهلة، ولهم حق علينا أن نعلمهم أمر دينهم، قوم لم يرد عليهم من يعلمهم الدين ولا التوحيد، فعلى نبي الله يوسف وعلى سائر الدعاة أن يعلموا أمثال هؤلاء الدين الحق؛ إذ الدعوة إلى الله لازمة، ثم هي شرف لفاعلها، فهي عمل المرسلين عليهم الصلاة والسلام: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:٣٣] ، فلم يمتنع يوسف لكونه في السجن من أن يبلغ دعوة الله ودين الله الحق، وما صده سجنه عن ذلك أبداً؛ بل أدى الرسالة صلى الله عليه وسلم كما أداها إخوانه من المرسلين عليهم الصلاة والسلام، ولم يمنعه السجن من إبلاغ دعوة الله بين يدي تأويل الرؤيا.
فالأمور يقدم أهمها ثم الأهم؛ (فإن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) ، وثَم رجل يخبر بأنه سيصلب وتأكل الطير من رأسه، فليذكر مثل هذا بشيء عساه أن ينتفع به قبل الممات، كما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يفعل، فلقد عاد النبي عليه الصلاة والسلام غلاماً يهودياً كان يخدمه، فقال له (يا غلام! قل: لا إله إلا الله، فنظر الغلام إلى أبيه كأنه يستأذنه، فقال أبوه: أطع أبا القاسم، فقال الغلام: لا إله إلا الله ثم مات.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار) ، وهذا مقام ليوسف عليه السلام يفسر فيه رؤيا، وفي تفسيرها: أن أحدهما سيموت، فجدير به إذاً أن لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة، بل يعلمهم وينتفع بذلك، فهو أولى من تعليم الرؤيا، وحينئذ قدم يوسف عليه السلام الأنفع وهو تعليم التوحيد قبل تأويل الرؤيا.