من المراد بالأولين والآخرين؟ قال فريق من أهل العلم: إن المراد بالأولين: الأمم التي تقدمت أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن المراد بالآخرين: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأيد هذا القائل مقالته بقول النبي صلى الله عليه وسلم:(نحن الآخرون السابقون يوم القيامة) ، وهذا القول تقلده بعض أهل العلم، واحتجوا له أيضاً ببعض الاحتجاجات مثل: الأوائل كانوا يصلبون على الخشب، وينشرون بالمناشير، ويوضع المنشار فوق رأس أحدهم فيشق نصفين، ولا يتزحزح عن دينه، وتخد لهم الأخاديد ويقذفون في النار، ولا يتزحزحون عن دينهم، لكن هذا قول مرجوح.
والراجح قول من قال من أهل التفسير: إن قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ}[الواقعة:١٣] أي: من الأولين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أي: من صدر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ}[الواقعة:١٤] أي: من متأخري أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه:(والذي نفسي بيده! إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة) ، قال ذلك لأصحابه رضي الله تعالى عنهم، وهذه الآية فسرت عند كثير من أهل العلم بآية فاطر التي هي:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}[فاطر:٣٢] ، فالطوائف الثلاث داخلة في قوله تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}[فاطر:٣٢] ، والذين اصطفاهم الله من العباد هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الأولى وهو الأقوى، فيقال: إن قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ}[الواقعة:١٣] أي: من أوائل هذه الأمة الذين آمنوا بالله وصدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعلى ذلك: تظهر هذه الآية فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وقد سمعتم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.
ثم يفشو الكذب) ، وأما حديث:(مثل أمتي مثل الغيث لا يدرى أوله خير أم آخره) ، فليس بثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكذلك حديث:(المتمسك بما أنتم عليه له أجر خمسين منكم ... ) إلى آخره؛ فهذا أيضاً الراجح ضعفه وعدم ثبوته عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقوله تعالى:{ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ}[الواقعة:١٣] أي: جماعة من صدر هذه الأمة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى وسلم الذين آمنوا به وصدقوه، فإنفاقهم خير إنفاق، وجهادهم خير جهاد، وثباتهم خير ثبات؛ فمن جاء من بعدهم فالفضل لله ثم لهم في وصول الدين إلينا.
وقد ناقش بعض أهل العلم مسألة تبين هذا المعنى، فلما قارنوا بين عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه ورحمه الله ومعاوية رضي الله عنه، كان التقرير: أن مشهداً شهده معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من مائة مثل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه الله.
وكذلك عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى، قالوا في ترجمته: اجتمعت فيه خصال الخير، فكان يحج عاماً، ويجاهد عاماً، وختموا الترجمة النيرة له بقولهم: ولم يسبقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا برؤيتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس من جاهد مع الرسول كمن جاهد بعد رسول الله؛ بدليل الآية الكريمة:{لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا}[الحديد:١٠] ، ولحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا تسبوا أصحابي) ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن البدريين:(يا عمر! وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم!) .