[ضرورة استعمال الرفق والحزم في الأعمال]
قال يوسف عليه السلام: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ} [يوسف:٦٠] ، أي: لا تقتربوا مني ولا من بلادي، وأخذ العلماء من ذلك فقهاً يتعلق بمدراء الأعمال، أو برؤساء الهيئات والحكومات وبرب البيت كذلك، أخذوا فقهاً يتعلق بكل مسئول عن عمل ألا وهو: أن المسئول عن العمل عليه أن يلتزم بشيئين: بالرفق، وكذلك بالحزم إن احتيج إليه.
فيتسم بالرفق إذ هو الأصل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه) ، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق، وإذا أراد بأهل بيت شراً حرموا الرفق) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب الرفق في كل شيء ويكره التفحش) ، فالرفق يحبه الله سبحانه وتعالى، ويحبه رسوله صلى الله عليه وسلم.
فعلى المسئول عن العمل أن يتسم به، ويكون رفيقاً بمن هم تحت يده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه) ، هكذا قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام.
فجدير بالمسئول عن العمل أن يكون رفيقاً مرغباً، وأن يكون حازماً شديداً إذا احتاج الأمر إلى حزم وشدة، فإن الله قال لذي القرنين: {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف:٨٦] ، فماذا قال؟ {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:٨٧-٨٨] ، فاستعمل مبدأ الثواب والعقاب كذلك.
وكذلك قال الله سبحانه في شأن نبيه سليمان: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:٢٠-٢١] ، فاستعمل طريقة العقاب كذلك؛ إذ الأعمال تصلح أيضاً وتسلم إذا كان ثم عقاب يُوقع على المخطئ.
هذا وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحليم الرحيم بأمته مبدأ الشدة أحياناً، فقد أرسل رجلاً من أصحابه عاملاً يجمع له الصدقات من بني سليم، ويقال لهذا الرجل: ابن اللتبية، فرجع الرجل فقال: يا رسول الله! هذا المال لكم، وهذا المال أهدي إلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلا جلست في بيت أبيك أو بيت أمك حتى تنظر ما يهدى إليك، ثم قام في الناس خطيباً وقال: يا أيها الناس! ما بالنا نرسل الرجل يجمع الصدقات فيرجع قائلاً: هذا لكم وهذا أهدي إلي، هلا جلس في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر ما يهدى إليه) ، فاستعمل الرسول الشدة في هذا اللفظ عليه الصلاة والسلام؛ إذ المقام يقتضي ذلك.
وكذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم فرأى سعد بن أبي وقاص سيفاً فأعجبه، فقال: (نفلنيه يا رسول الله! فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: ضعه، ثم قال سعد بعد مدة -وقد غلبته نفسه على هذا السيف-: أعطنيه يا رسول الله! فقال: ضعه، ثم بعد مدة قال سعد مرة ثالثة: نفلنيه يا رسول الله! فقال صلوات الله وسلامه عليه: ضعه من حيث أخذته، قال سعد: وحد بي رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته) ، أي في المرة الثالثة اشتد عليه النبي عليه الصلاة والسلام.
فيوسف عليه السلام استعمل هذا الترغيب والترهيب قائلاً: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:٥٩] ، ثم عرج على الباب الآخر الترهيب والتخويف بقوله: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ} [يوسف:٦٠] ، أي: لا تقتربوا مني! {قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} [يوسف:٦١] ، أي: سنطلبه من أبيه برفق وتلطف، وبشيء من الاحتيال كذلك، فهذا تقتضيه لفظة المراودة، وقد قدمنا معناها.