للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إشارة الآية إلى منع الاستمناء]

ثم أرشد الله سبحانه وتعالى إلى التعفف والاستعفاف وطلب العفة لمن لم يجد النكاح: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور:٣٣] أي: مؤن النكاح وتكاليفه.

وفي الآية من طرف خفي إشارة إلى منع الاستمناء؛ لأن الله عز وجل أرشد إلى التعفف ولم يرشد إلى الاستمناء، كذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج.

، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) ولم يرشد إلى الاستمناء، وأصرح من ذلك في المنع قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:٥-٧] والاستمناء من وراء ذلك.

فعلى ذلك ما يفعله شرار الشباب والنساء من العبث بأنفسهم الأمر فيه كما قال الشافعي: أنه محرم.

استدلالاً بالآية الكريمة: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:٧] فجدير بمن تسول له نفسه فعل هذا أن يذكر أن الله رقيب عليه، وأن لله ملائكة تراقب ولا تفارق الشخص، فعليه أن يذكر ذلك ويستحي من الله ومن ملائكة الله سبحانه وتعالى.

قال سبحانه: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور:٣٣] ومن يستعفف يعفه الله، يعني: من سلك طريق التعفف وابتغاه أعانه الله عليه ويسره له، أما من أتبع نفسه شهواتها فيوشك أن تزل قدمه والعياذ بالله! {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور:٣٣] أي: لا يجدون مؤن النكاح وتكاليفه {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:٣٣] .

{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} [النور:٣٣] أي: يطلبون الكتاب، والمراد بالكتاب المكاتبة، وهي ما تكون بين العبد وسيده، يكاتب العبد سيده، أي: يتفقان على أن يشتري العبد نفسه من سيده بمبلغ من المال، ويكتبان ذلك، ويبدأ في السعي لسداد ما عليه من الدين، فإذا انتهى المال الذي تكاتبا عليه أعتق، هذا المراد بالكتاب، أي: المكاتبة التي تكون بين العبد وبين سيده حتى يتحرر به العبد.

ورب العزة يقول: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ} [النور:٣٣] أي: يطلبون المكاتبة {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} [النور:٣٣] أي: لا تتباطئوا في مكاتبتهم، فإنه قد يتباطأ السيد ويقول: لا أكاتب؛ متحكماً في رقبة عبده، فرب العزة يقول: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور:٣٣] .

وهل الأمر بقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور:٣٣] أمر إيجاب؟ رأى ذلك بعض أهل العلم واستدلوا بما صنعه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مع أنس بن مالك وعبده سيرين، أبي محمد بن سيرين فـ سيرين كان عبداً عند أنس وكان لـ سيرين مال كثير، وعلم أنه إذا مات وهو عبد عند أنس فسيأخذ أنس ماله، فأراد سيرين أن يكاتب عن نفسه، فأبى ذلك أنس، فترافعا إلى أمير المؤمنين عمر فقال لـ أنس: لتكاتبنه أو لأوجعتك ضرباً، فكاتب أنس ابن سيرين، ورب العزة يقول: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:٣٣] .

قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:٣٣] فيه للعلماء تأويلات: أحدها: أن المراد بالخير المال، واستدل له بأن عموم ذكر الخير في الكتاب العزيز يراد به المال، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:٨] أي: المال.

{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:١٨٠] خيراً: مالاً.

فمن العلماء من قال: إن معنى قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:٣٣] أي: إن علمتم عندهم مالاً.

ولا تكاتبوهم وتتركوهم يتسولون ويسرقون حتى يأتوا بالمال الذي كاتبوكم عليه، والحالة هذه فيها دفع الفساد من سرقتهم، ودفع الفساد من تسولهم، لكن إن كنتم ترون أنهم يعملون أعمالاً تدر لهم مالاً فكاتبوهم، هذا وجه في التأويل.

والوجه الآخر: أن المراد بالخير الصلاح، أي: فإن كانوا أهل صلاح فكاتبوهم وأعتقوهم، فهذا هو المعنى الثاني.

قوله: {وَآتُوهُمْ} [النور:٣٣] أي: أعطوهم من مال الله الذي آتاكم، وما المراد بمال الله؟ هل المراد به الزكاة؟ أي: أن من كاتب عن نفسه قد أصبح من أهل الزكاة، فليعط منها، قال بذلك فريق من العلماء لقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:٦٠] هذا بند في الرقاب أي: لتحرير الرقاب، ومن العلماء من قال: يتصدق عليه صدقة عامة.

{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:٣٣] من العلماء من قال: تترك له الربع أو العشر فمثلاً: كاتبته على ألف جنيه فاترك له مائة أو مائتين أو ثلاثمائة إحساناً منك إليه.

{وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور:٣٣] والفتيات المراد بها: الإماء، فالفتاة أحياناً أو في الغالب تطلق على الشابة، والفتى يطلق على الشباب، وأحياناً يقال: فتاي أي: عبدي وفتاتي أي: أمتي، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي ولكن ليقل: فتاي وفتاتي) فالغالب أن الفتاة شابة، والفتى هو الشاب حراً كان أو عبداً لكن المراد هنا الإماء، {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ} [النور:٣٣] أي: إمائكم {عَلَى الْبِغَاءِ} [النور:٣٣] أي: على الزنا.

فالبغاء هو الزنا، ومنه قول قوم مريم لمريم: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:٢٨] أي: زانية.

وهل كان هناك أحد يكره فتاته على البغاء؟ نعم.

كان ذلك موجوداً.

فكان السادة الذين لهم عبيد وعندهم إماء إذا أتاهم الضيف فمن الإكرام الذي يكرمونه به أن يقدموا له الإماء يزني بهن، ومنهم من كان يرسل فتياته الإماء ليزنين بالإكراه، إكراه منه لهن حتى يتقاضى الأجور من ورائهن، كـ عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين كان عنده إماء، وكان يكرههن على الزنا تشرفاً بذلك عند أضيافه، وطلباً للمال من الذين يستأجرونهن.

فأنزل الله سبحانه وتعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:٣٣] المراد بالتحصن هنا: العفة، فهنا يطرح

السؤال

إذا لم ترد المرأة تحصناً هل له أن أكرهها؟ فالإجابة: أن قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:٣٣] خرج مخرج الغالب، فإذا لم تكن هي مريدة للتحصن فلا وجه للإكراه، إذا كانت هي زانية فهي ستزني باختياره واختيارها فانتفى الإكراه، وهذا ليس مباحاً بل حرام، لكن هذا وجه قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:٣٣] فإنها خرجت مخرج الغالب.

قال سبحانه: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:٣٣] أي: عفة وطهارة وامتناعاً من الزنا.

{لِتَبْتَغُوا} [النور:٣٣] أي: لتطلبوا {عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: متاع الحياة الدنيا، وقيل له عرض لأنه كالجملة الاعتراضية بين الجمل من الممكن أن تقوم الجمل بدونها، وكذلك الدنيا عرض زائل، كما قال القائل: (الدنيا ظل زائل) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما لي وللدنيا، إنما أنا والدنيا كراكب استظل بظل شجرة ثم قام وتركها) .

{لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:٣٣] {غَفُورٌ رَحِيمٌ} فيها وجهان: أحدهما: غفور رحيم للفتاة إذا أكرهت، فتكون الآية من آيات رفع الحرج عن العباد.

والوجه الثاني: غفور رحيم لمن أكرههن ثم تاب من هذه الفعلة بعد نزول الآية، ففيها الوجهان.

{وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:٣٣] : هل هناك فرق بين الرجل إذا أكره على الزنا، وبين المرأة إذا أكرهت على الزنا؟ فرق بينهما، فالمرأة قد تكره على الزنا وتزني رغماً عنها، بأن يتسلط عليها شرار المفسدين وتزني رغماً عنها، أما الرجل فلا ينتشر ذكره إلا إذا أراد هو من داخله ذلك، أي: لا يستطيع أحد أن يكره الرجل على أن ينتشر ذكره للجماع، هذا وجه التفريق.

فمن العلماء من قال: لا يلتمس للرجل عذر في أنه أكره على الزنا، ومنهم من قال: إذا كان العذر قد التمس له إذا نطق بكلمة الكفر فلأن يلتمس له عند الزنا من باب أولى، وهناك تفريقات محلها كتب الفقه.

{وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} [النور:٣٤] واضحات ظاهرات مزيلات للإشكال، {وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:٣٤] والموعظة هي الشيء الزاجر الذي يزجر الشخص ويخوفه.