[تفسير قوله تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله)]
ثم قال تعالى حاثاً عباده المؤمنين على الإيمان، ومستبطئاً لهم في عدم مبادرتهم إلى الخشوع: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:١٦] ، أي: ألم يحن لهذه القلوب القاسية أن تلين لذكر الله وما نزل من الحق؛ فإن هذا الذي نزل من الحق، يليّن الحجارة إذا نزل عليها، كما قال سبحانه: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:٧٤] ، وكما قال سبحانه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:٢١] .
فيقول الله لأهل الإيمان: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} ، وبهذا يكتشف المؤمن نفسه، ويعرف المسلم نفسه، وقد قدمنا أنه لم ينزل عليك وحيٌ يفيدك أنك على خير، ولكن ثم نصوصٌ تستطيع بها قياس نفسك ومعرفة أمرها، فالله ذكر أهل الإيمان فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:٢] ، فقس نفسك على هذا، فهل أنت من هذا الصنف الذي قال تعالى فيه: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:٢] ، أم أنك لست منهم؟ كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأهل الجنة ثلاثة -وممن ذكر منهم-: رجلٌ رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم) ، فانظر هل أنت هذا الرجل الرحيم رقيق القلب، تحزن إذا أصيب أخوك المسلم بمصيبة، وتحزن إذا حلت بأخيك المسلم فضيحة، أم أنك لست من هذا الصنف؟ فهذه مقاييس تقيس بها نفسك، قال الله سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:٢٣] ، فانظر إلى نفسك واكتشفها في حياتك الدنيا، فهل دمعت عينك لله سبحانه؟ وهل رقّ قلبك لذكر الله سبحانه؟ وهل رق قلبك للأيتام وللأرامل وللمساكين؟ أم لست من هذا الصنف؟ قس نفسك فأنت بها أخبر، وأنت لها طبيبٌ بإذن الله، قال الله سبحانه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:١٦] .
وفي قوله تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} قولان مشهوران لأهل العلم: أحدهما: طال عليهم الأمد في النعيم، فلما طال عليهم الأمد في النعيم نسوا الذكر وكانوا قوماً بوراً.
أي: نعّموا وأغدقت عليهم النعم، فلما نعّموا وأغدقت عليهم النعم كفروا ربهم وخالقهم سبحانه، فلم يقوموا بشكره، ولم يتضرعوا إليه، كما قال الله سبحانه: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:٦-٧] ، وكما قال تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الإسراء:٨٣] ، إلى غير ذلك من الآيات.
فعلى هذا القول يكون المعنى: طال عليهم الزمن في النعيم، فمتعوا متاعاً طويلاً، ولم يصابوا بالمصائب، ولم يبتلوا بالبلايا، ولم يتضرعوا إلى الله، ولم يشعروا بحال الضعفاء وبحال المساكين وبحال المرضى؛ فإن المصائب وأنواع الفقر وأنواع البلايا التي يصاب بها الإنسان تردّ الإنسان رداً جميلاً إلى الله سبحانه وتعالى، وتذكره بأحوال إخوانه الجائعين، وبأحوال إخوانه العارين، وبأحوال الأيتام، وبأحوال المساكين، وقد قال ربنا جل ذكره: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:٢٧] .
فهذا هو المعنى الأول في تفسير قوله تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} أي: فطال عليهم العمر في النعيم، كقوله تعالى: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [الأنبياء:٤٤] ، فطال عليهم العمر في النعيم؛ فنسوا ذكر الله، ولم يرفعوا أيديهم إلى الله سبحانه، ولم يسألوه ولم يرجوه.
والمعنى الثاني في قوله تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} أي: طال عليهم زمن البعد عن التذكير، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم، كلما هلك نبيٌ خلفه نبيٌ آخر) ، فكان الأنبياء من بني إسرائيل يذكرون بني إسرائيل إلى أن جاء عيسى عليه الصلاة والسلام، فرفع الله عيسى صلى الله عليه وسلم، ولم يكن بين عيسى صلوات الله وسلامه عليه وبين نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أنبياء، فهذه المدة التي لم يأت فيها أنبياء بين عيسى عليه السلام ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قل فيها المذكرون بالله، فطال على بني إسرائيل وعلى أهل الكتاب الأمد -وهو الزمن- وبعدوا عن التذكير وعن الذكرى، فلما طال عليهم الأمد في البعد عن التذكير قست قلوبهم.
فيؤخذ من هذا أن الذي يبتعد عن التذكير، ويبتعد عن مواعظ الذكر يقسو قلبه، ولذلك يتعين على كل مسلم أن يحافظ على الواعظ التي فيها تذكير بالله سبحانه، وفيها تذكير بلقاء الله، وفيها تذكيرٌ بالموت، وبذلك وعلى ذلك حثنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي كتاب ربنا الحث على ذلك، وقد قال تعالى: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:٤٦] ألا وهي تذكر الدار الآخرة.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام (يتخول أصحابه بالموعظة كراهية السآمة عليهم) أي: يعظهم بين الحين والآخر، قال العرباض بن سارية رضي الله عنه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً بليغة، وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون) ، وفي الحديث (أن موسى عليه السلام قام خطيباً في بني إسرائيل فوعظهم موعظةً بليغة حتى أبكاهم) ، وقال سبحانه وتعالى: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:٦٣] ، فينبغي أن يحافظ المرء منا على المواعظ التي فيها وعظ وفيها تذكير بالله وفيها فوائدٌ، وفيها تذكير بلقاء الله وبالموت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) ، فينبغي أن تحافظ في هذا الجانب بين الحين والآخر، واستمع إلى المواعظ حتى يرق قلبك؛ فإن الله سبحانه ذكر سبب قسوة القلب في هذه الآية فقال: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: لما ابتعدوا عن الذكر قست هذه القلوب؛ فإن التذكير يطهر القلوب ويحييها، وكذلك المصائب تحيي القلوب، فلذلك هذه الآية الكريمة جمعت المعنيين معاً، فطال عليهم زمن البعد عن التذكير، وطال عليهم الأمد في النعيم، فقلت عليهم المصائب، فماتت قلوبهم لقلة البلايا والمصائب، والبلايا والمصائب قد تحرك القلب، فقد لا يتحرك القلب أحياناً بموعظة ولكنه يتحرك بابتلاء، وقد لا يتحرك القلب بسماع آية من كتاب الله أو حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن إذا فوجئ الشخص -مثلاً- أن المصباح قطع فإنه حينئذٍ يبدأ بالتضرع والرجوع واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، وقد لا يتحرك الشخص من موعظة، ولكنه لما يرى أولاده مرضى أو جياعاً أمام عينيه يتحرك قلبه! قال تعالى: {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:١٦] أي: خارجون عن الطاعة.
وقد روي أن هذه الآية كانت سبباً في هداية طائفةٍ من السلف، ومن أشهرهم الفضيل بن عياض العابد المشهور في تاريخ المسلمين، كان يقطع الطرق، ويسطو على البيوت، ويغازل النساء، ويفعل المحرمات والموبقات، ويرعب الناس المارة في الصحاري وفي البراري وفي القفار، فسطا يوماً على منزل من المنازل، وبينما كان يصعد الجدران للسطو على منزل لإيذاء أهله سمع تالياً يتلو هذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:١٦] ، وأراد الله له الهداية، فقال: بلى -يا رب! - قد آن أن يخشع قلبي لذكرك.
وعاهد الله ألا يعصي بعد ذلك، ولا يسفك دماً، ولا يقطع طريقاً، فنزل عازماً على التوبة، فمر به قومٌ وهو مستترٌ عن أعينهم فقالوا: أسرعوا في المسير؛ فإن هذا المكان به قاطع الطريق المشهور الفضيل بن عياض، فازداد حسرةً وندامة على ما صنع، وعندما سمع منهم هذه المقالة عزم على العكوف في بيت الله الحرام يتلو آيات الله آناء الليل ويركع ويسجد، واستقام على ذلك إلى أن قبضه الله سبحانه وتعالى، وثم قصص لغيره أيضاً.