للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ومن قصر فيه حتى تضرّر بتركه مع القدرة على استعماله؛ فهو مفرِّطٌ يستحق العقوبة، لكن الله سبحانه وتعالى قد يُقوّي بعضَ عباده من ذلك على ما لا يُقوِّي عليه غيرَه، فإذا عمل بمقتضى قوّته التي اختُصَّ بها عن غيره؛ فلا حرج عليه.

ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُواصِلُ في صيامه، ويَنْهَى عن ذلك أصحابه، ويقول لهم: "إني لستُ كهيئتِكم إني أُطْعَم وأُسْقَى" وفي رواية: "إني أظلّ عندَ ربّي يُطْعِمُني، ويَسْقِيني". وفي رواية: "إن لي مُطْعِمًا يُطْعِمُني وساقيًا يَسْقِيني" (١).

والأظهر أنه أراد بذلك أن الله يقوّيه ويغذيه بما يورده على قلبه من الفتوح القدسية، والمنَحِ الإلهية، والمعارف الربانية التي تُغْنِيه عن الطعام والشراب برهةً من الدهر؛ كما قال القائل:

لها أحاديثُ منْ ذِكْرَاكَ تَشْغَلهَا … عن الشَّرَابِ وتُلْهِيهَا عَن الزَّادِ

لها بِوَجْهِكَ نورٌ تستضِيءُ بهِ … وقْتَ المسِيرِ وفي أعقابِها حادِي

إذا اشتكَتْ من كَلال السَّير أَوْ عَدَهَا … رَوْحَ القُدُوم فتحْيَا عندَ ميعادِ

وقد كان كثير من السلف لهم من القوّة على ترك الطعام والشراب ما ليس لغيرهم، ولا يتضرَّرُونَ بذلك.

فكان ابن الزبير يواصل ثمانية أيام.

وكان أبو الجوزاء يواصل في صومه بين سبعة أيام، ثم يقبِضُ، على ذراعِ الشابِّ (٢)؛ فيكاد يحطمها.

وكان إبراهيم التيمي يمكث شهرين لا يأكل شيئًا، غير أنه يشرب شَرْبَة حلوى.

وكان حجاج بن فُرَافِصَةَ يبقى أكثرَ من عشرة أيام لا يأكل، ولا يشرب، ولا ينام.

وكان بعضهم لا يبالي بالحر، ولا بالبرد كما كان عليٌّ رضي الله عنه يلبس لباسَ


(١) راجع في هذا ما أخرجه البخاري في ٣٠ - كتاب الصوم: ٤٨ - باب الوصال، ومن قال: ليس في الليل صيام؛ بقوله عز وجل: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه رحمة لهم، وإبقاء عليهم، وما يكره من التعمق ٤/ ٢٠٢ ح: ١٩٦١، ١٩٦٢، ١٩٦٣، ١٩٦٤، ٤٩ - باب التنكيل لمن أكثر الوصال ٤/ ٢٠٥ ح ١٩٦٥، ١٩٦٦، ٥٠ - باب الوصال إلى السحر ٤/ ٢٠٨ ح ١٩٦٧.
من أحاديث أنس وطرفه في ٧٢٤١، وعبد الله بن عمر، وأبي سعيد الخدري، وعائشة، وأبي هريرة رضي الله عنهم وأطرافه في: ٦٨٥١، ٧٢٤٢، ٧٢٩٩.
(٢) م: "الشاة" وهو تحريف.

<<  <  ج: ص:  >  >>