للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فقال: "إنها لدارُ صدق لمن صدفها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها؛ مسجد أحباءِ الله، ومهبط وحيه، ومُصَلَّى ملائكتِه، ومُتَّجَرُ أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذم الدنيا، وقد آذنت بفراقها، ونادت بعيبها، ونعت نفسها وأهلها، فمثّلت ببلائها البلاء وشوّقت بسرورها إلى (١) السرور، فذمَّها قوم عند الندامة، وحَمِدها (٢) آخرون؛ حدثتهم فصدّقوا وذكرتهم فذكروا.

فيا أيها المغتر بالدنيا المغتر بغَرورها! متى استلأَمت إليك الدنيا؟ بل متى غرتك؟! (٣) أبمضاجع آبائك (٤) من الثرى؟ أم بمصارع أمهاتك من البلى؟ كم قد قلَّبت بكفيك، ومرَّضت بيديك تطلب له الشفاء وتسأل له الأطباء فلم تظفر بحاجتك ولم تُسْعَفْ بطَلِبَتِكَ قد مثَّلت لك الدنيا بمصرعه مصرعَك غدًا، ولا يغني عنك بكاؤك، ولا ينفعك أحباؤك؟! " (٥).

فبين أمير المؤمنين رضي الله عنه أن الدنيا لا تُذمّ مطلقًا، وأنها تُحمد بالنسبة إلى من تزوّد منها الأعمالَ الصالحة، وأن فيها مساجدَ الأنبياء، ومهبطَ الوحي، وهي دار التجارة للمؤمنين اكتسبوا منها الرحمة، وربحوا بها الجنة؛ فهي نعم الدار لمن كانت هذه صفتَه.

• وأما ما ذَكر من أنها تغرّ وتخدع فإنها تنادي بمواعظها، وتنصح بعبرها، وتبدي عيوبها بما تُري أهلها (٦) من مصارع الهلْكى، وتقلب الأحوال من الصحة إلى السَّقَم، ومن الشبيبة إلى الهرم، ومن الغنى إلى الفقر، ومن العزِّ إلى الذل ولكن محبها قد أصمّه وأعماه حُبُّهَا فهو لا يسمع نداءَهَا كما قيل:

قد (٧) نادت الدنيا على نَفْسِهَا … لو كان في العالَم مَنْ يَسْمعُ!؟

كَمْ واثقٍ بالعمرِ أفنَيتُه … وَجَامعٍ بدَّدْتُ ما يَجْمعُ!؟


(١) م: "إلى أهل السرور".
(٢) م: "مدحها".
(٣) م: "تحت الثرى".
(٤) ليست في م.
(٥) أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا ص ٦١ - ٦٢ ح ١٤٧ من طريق علي بن الحسن بن أبي مريم، عن عبد الله بن صالح العجلي، عن معاذ الحذاء قال: سمع الإمام علي بن أبي طالب رجلًا يسب الدنيا فقال له: فذكره وفيه: "مسجد أحباء الله وهبوط وحيه .. نادت ببينها … المعتل بالدنيا .. متى استهوتك الدنيا أبضاجع قلبت بكفك .. بيدك .. لم تظفر .. يوم لا يغني عنك بكاؤك".
(٦) م: "من أهلها".
(٧) "ا": "لقد".

<<  <  ج: ص:  >  >>