٣ - حين سقمت أبدانهم وهم بالمدينة وذكروا أنهم أم يتعودوا، على حياة الريف والمدن رغبوا أن يخرجوا إلى الإبل في الصحراء يفيدون من ألبانها، ويفيئون إلى مراعيها ويذخرون من أشعارها وأوبارها أثاثا ومتاعًا إلى حين؛ سيما وهم لم يوائمهم طعام المدينة ولا جواؤها. ولقد طلبوا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعينهم على حياتهم خارج المدينة. ولقد وافقهم - صلى الله عليه وسلم - وسمح لهم بالارتفاق بإبله بل خصص لخدمتهم راعي هذه الإبل، ولم يكتف بهذا وذاك وإنما وصف لهم العلاج مما سقموا منه، حتى برئوا بفضل الله ورسوله. فماذا بعد الإنعام إلا الشكر، وماذا بعد فضل الله إلا الإقامة على الإيمان وطاعته وماذا بعد بيعة الرسول إلا الوفاء بها؟!. ثم ماذا أذا حدث الكفر بعد الأيمان؟ والمعصية بدل الطاعة؟ ونقض العهد مع الله ورسوله من بعد ميثاقه؟!. لقد أفادت الروايات ما يلي: ١ - أن الجزاء النبوي لم يكن عقابًا على معصية فحسب. وإنما كان عقابًا على ارتدادهم وحربهم لله وسعيهم في الأرض فسادًا ولقد ذكر المفسرون أن آية المحاربين إنما نزلت بسببهم وترجم البخاري بالآية في أكثر من موضع كما رأينا .. ٢ - أنه ليس لأحد أن يملي بها لنفسه ولا أن يفتي بها لحاكم أن يقتل في المعصية، أو أن يمثل بها في التمثيل برقاب الناس أو التنكيل بعباد الله. لقد سأل الحجاج أنَسًا أن يحدثه بأشد عقوبة عاقبه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسرع أنس فحدثه بما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعرنيين دون أن يبسط له أنهم كفروا بعد إسلامهم، وخانوا الله فأمكن منهم، ونفضوا بيعة رسوله وعاشوا في الأرض فسادًا ولم يقتصر أمرهم على السرقة أو القتل فحسب. ولقد كان الحجاج مسرفًا في طغيانه مسرفًا في أجزيته ولو علم أنس سلفًا أن الحجاج سيعتمد على هذه الجزئية التي اقتصر أنس في إخباره عليها ليبرر لنفسه إسرافها في الانتقام، وتجاوزها في التشفي ما اقتصر على ذلك، ولعل عذر أنس أنه لم يدر بخلده أن الحجاج يريد ليتخذها مبررًا أو تكأة للعقاب على مجرد المعصية ولهذا ما عتم الحجاج بن يوسف الثقفي حين سمع ذلك من أنس وكما نقل ابن حجر في الفتح في موضع الرواية (١٠/ ١٤٢) عن بهز: "فوالله ما انتهى الحجاج حتى قام بها على المنبر فقال: حدثنا أنس فذكر الحديث ثم قال: قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - الأيدي والأرجل وسمل الأعين في معصية الله أفلا نفعل نحن ذلك في معصية الله؟ وأخطأ الحجاج خطأ فاحشا؛ فلم يكن ذلك في مجرد المعصية وإنما كان ذلك للردة والكفر وحرب الله ورسوله. وأخطأ الحجاج خطأ فاحشا ففد كان كما حكت الروايات الآنفة: قبل أن تنزل الحدود. وأخطأ الحجاج خطأ فاحشًا فقد كان ذلك كما حكت الروايات: قبل النهي عن المثلة. ولهذا لما بلغ الحديث الحسن البصري قال: وددت أنه لم يحدثه. بل كما نقل ابن حجر عن الإسماعيلي في الموضع نفسه فقد قال أنس نفسه: ما ندمت على شيء ما ندمت على حديث حدثت به الحجاج فذكر ما حدثه به في شأن العرنيين. قال ابن حجر: وإنما ندم أنس على ذلك لأن الحجاج كان مسرفًا في العقوبة، وكان يتعلق بأدنى شبهة، ولا حجة له في قصة العرنيين لأنَّه وقع التصريح في بعض طرقه أنهم ارتدوا وكان ذلك قبل أن تنزل الحدود، وقبل النهي عن المثلة=