اتَّقَوْا هنا عامة في اتقاء الشرك واتقاء المعاصي بدليل أن اللفظة إنما جاءت في مدح لهم، فلا وجه لقصرها على اتقاء الشرك وحده، وأيضا فالمتقي العائذ قد يمسه طائف من الشيطان إذ ليست العصمة إلا للأنبياء عليهم السلام وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة «طائف» ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «طيّف» ، وقرأ سعيد بن جبير «طيف» ، واللفظة إما من طاف يطوف وإما من طاف يطوف وإما من طاف يطيف بفتح الياء، وهي ثابتة عن العرب، وأنشد أبو عبيدة في ذلك:
أنى المّ بك الخيال يطيف ... ومطافه لك ذكرة وشغوف
ف «طائف» اسم فاعل كقائل من قال يقول وكبائع من باع يبيع و «طيّف» اسم فاعل أيضا كميت من مات يموت أو كبيع ولين من باع يبيع ولان يلين و «طيّف» يكون مخففا أيضا من طيف كميت من ميت، وإذا قدرنا اللفظة من طاف يطيف فطيف مصدر، وإلى هذا مال أبو علي الفارسي وجعل الطائف كالخاطر والطيف كالخطرة، وقال الكسائي: الطيف اللمم والطائف ما طاف حول الإنسان.
قال القاضي أبو محمد: وكيف هذا وقد قال الأعشى: [الطويل]
وتصبح عن غب السرى وكانّما ... ألمّ بها من طائف الجن أولق
ومعنى الآية: إذا مسهم غضب وزين الشيطان معه ما لا ينبغي، وقوله تَذَكَّرُوا إشارة إلى الاستعاذة المأمور بها قبل، وإلى ما لله عز وجل من الأوامر والنواهي في النازلة التي يقع تعرض الشيطان فيها، وقرأ ابن الزبير «من الشيطان تأملوا فإذا هم» ، وفي مصحف أبي بن كعب «إذا طاف من الشيطان طائف تأملوا» ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الغضب جند من جند الجن، أما ترون حمرة العين وانتفاخ العروق؟ فإذا كان ذلك فالأرض الأرض، وقوله مُبْصِرُونَ من البصيرة أي فإذا هم قد تبينوا الحق ومالوا إليه.
وقوله تعالى: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ الآية، في هذه الضمائر احتمالات، قال الزجاج:
هذه الآية متصلة في المعنى بقوله: وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ [الأعراف: ١٩٢] .
قال القاضي أبو محمد: في هذا نظر، وقال الجمهور: إن الآية مقدرة موضعها إلا أن الضمير في قوله وَإِخْوانُهُمْ عائد على الشياطين والضمير في قوله يَمُدُّونَهُمْ عائد على الكفار وهم المراد بالإخوان، والشَّيْطانِ في الآية قبل هذه للجنس فلذلك عاد عليهم هاهنا ضمير جميع فالتقدير على هذا التأويل وإخوان للشياطين يمدونهم الشياطين في الغي، وقال قتادة إن الضميرين في الهاء والميم للكفار.
قال القاضي أبو محمد: فتجيء الآية على هذه معادلة للتي قبلها أي إن المتقين حالهم كذا وكذا وهؤلاء الكفار يمدهم إخوانهم من الشياطين ثم لا يقصرون، وقوله فِي الغَيِّ يحتمل أن يتعلق بقوله يَمُدُّونَهُمْ وعليه يترتب التأويل الذي ذكرنا أولا عن الجمهور، ويحتمل أن يتعلق بالإخوان فعلى هذا