وقوله: يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي إلى آخر الآية كلام يقتضي أن شُعَيْباً عليه السلام وجد في نفسه لما رأى هلاك قومه حزنا وإشفاقا إذ كان أمله فيهم غير ذلك، فلما وجد ذلك طلب أن يثير في نفسه سبب التسلي عنهم والقسوة عليهم فجعل يعدد معاصيهم وإعراضهم الذي استوجبوا به أن لا يتأسف عليهم، فذكر أنه بلغ الرسالة ونصح، والمعنى فأعرضوا وكذبوا، ثم قال لنفسه لما نظرت في هذا وفكرت فيه فَكَيْفَ آسى على هؤلاء الكفرة، ويحتمل أن يقول هذه المقالة على نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم لأهل قليب بدر، وقال مكي: وسار شعيب بمن معه حتى سكن مكة إلى أن ماتوا بها، وآسى:
أحزن، وقرأ ابن وثاب وطلحة بن مصرف والأعمش:«إيسى» بكسر الهمزة وهي لغة كما يقال أخال وأيمن، قال عبد الله ابن عمر لا أخاله، وقال ابنه عبد الله بن عبد الله بن عمر في كتاب الحج لا أيمن وجميع ذلك في البخاري، وهذه اللغة تطرد في العلامات الثلاث، همزة التكلم ونون الجماعة وتاء المخاطبة، ولا يجوز ذلك في ياء الغائب كذا قال سيبويه، وأما قولهم من وجل ييجل فلعله من غير هذا الباب.
هذه الآية خبر من الله عز وجل أنه ما بعث نبيا في مدينة وهي «القرية» إلا أخذ أهلها المكذبين له بِالْبَأْساءِ وهي المصائب في الأموال والهموم وعوارض الزمن، وَالضَّرَّاءِ وهي المصائب في البدن كالأمراض ونحوها، هذا قول ابن مسعود وكثير من أهل اللغة، وحكي عن السدي ما يقتضي أن اللفظتين تتداخل فتقال كل واحدة على المعنيين، ولَعَلَّهُمْ ترج بحسب اعتقاد البشر وظنونهم، يَضَّرَّعُونَ أي ينقادون إلى الإيمان، وهكذا قولهم الحمى أضرعتني لك.
ثم قال تعالى أنه بعد إنفاذ الحكم في الأولين بدل للخلق مكان السيئة وهي «البأساء» و «الضراء» الحسنة وهي «السراء» والنعمة، وهذا بحسب ما عند الناس، وإلا فقد يجيء الأمر كما قال الشاعر:
[البسيط]
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
قال القاضي أبو محمد: وهذا إنما يصح مع النظر إلى الدار الآخرة والجزاء فيها، والنعمة المطلقة هي التي لا عقوبة فيها: والبلوى المطلقة هي التي لا ثواب عليها، وحَتَّى عَفَوْا معناه: حتى كثروا يقال عفا النبات والريش «يعفو» إذا كثر نباته، ومن هذا المعنى قول الشاعر:[الوافر]