للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوله عز وجل:

[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]

ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨)

قَفَّيْنا معناه: جئنا بهم بعد الأولين، وهو مأخوذ من القفا، أي جاء بالثاني في قفا الأول، فيجيء الأول بين يدي الثاني، ومنه القوافي التي تأتي أواخر أبيات الشعر، ثم ذكر «عيسى» عليه السلام تشريفا وتخصيصا.

وقرأ الحسين: «الإنجيل» بفتح الهمزة، قال أبو الفتح: هذا مما لا نظير له. و: رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً مفعولات جَعَلْنا. والجعل في هذه الآية بمعنى: الخلق.

وقوله: ابْتَدَعُوها صفة ل رَهْبانِيَّةً وخصها بأنها ابتدعت، لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيها، وأما الرهبانية فهي أفعال بدن مع شيء في القلب ففيها موضع للتكسب. قال قتادة:

الرأفة والرحمة من الله تعالى. والرهبانية هم ابتدعوها، والمراد بالرأفة والرحمة: حب بعضهم في بعض وتوادهم، والمراد بالرهبانية: رفض النساء، واتخاذ الصوامع، والمعتزلة تعرب رَهْبانِيَّةً أنها نصب بإضمار فعل يفسره ابْتَدَعُوها وليست بمعطوفة على الرأفة والرحمة ويذهبون في ذلك إلى أن الإنسان يخلق أفعاله فيعربون الآية على مذهبهم، وكذلك أعربها أبو علي. وروي في ابتداعهم الرهبانية أنهم افترقوا ثلاث فرق، ففرقة قاتلت الملوك على الدين، فقتلت وغلبت. وفرقة قعدت في المدن يدعون إلى الدين ويبينونه، فأخذتها الملوك ونشرتها بالمناشر وقتلوا، وفرقة خرجت إلى الفيافي وبنت الصوامع والديارات، وطلبت أن تسلم على أن تعتزل فتركت وتسموا بالرهبان، واسمهم مأخوذ من الرهب، وهو الخوف، فهذا هو ابتداعهم ولم يفرض الله ذلك عليهم، لكنهم فعلوا ذلك ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ، هذا تأويل أبي أمامة وجماعة، وقال مجاهد: المعنى كَتَبْناها عَلَيْهِمْ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ. ف «كتب» على هذا بمعنى: قضى، ويحتمل اللفظ أن يكون المعنى: ما كتبناها عليهم إلا في عموم المندوبات، لأن ابتغاء مرضاة الله بالقرب والنوافل مكتوب على كل أمة فالاستثناء على هذا احتمال متصل.

واختلف الناس في الضمير الذي في قوله: فَما رَعَوْها من المراد به؟ فقيل إن الذين ابتدعوا الرهبانية بأنفسهم لم يدوموا على ذلك ولا وفوه حقه، بل غيروا وبدلوا، قاله ابن زيد وغيره، والكلام سائغ وإن كان فيهم من رعى: أي لم يرعوها بأجمعهم، وفي هذا التأويل لزوم الإتمام لكل من بدأ بتطوع ونفل أنه يلزمه أن يرعاه حق رعيه. قال ابن عباس وغيره: الضمير للملوك الذين حاربوهم وأجلوهم وقال الضحاك وغيره: الضمير للأخلاف الذين جاؤوا بعد المبتدعين لها، وباقي الآية بين. وقرأ ابن مسعود: «ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها» .

<<  <  ج: ص:  >  >>