وقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ الآية، المراد بالذين أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، قال الطبري:«وقد روي أن معينين منهم سألهم قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عما في كتبهم من أمره فكتموا فنزلت، وتتناول الآية بعد كل من كتم علما من دين الله يحتاج إلى بثه، وذلك مفسر في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» ، وهذا إذا كان لا يخاف ولا ضرر عليه في بثه.
وهذه الآية أراد أبو هريرة رضي الله عنه في قوله «لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم حديثا» ، وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال «حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: أما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم» .
وهذه الآية أراد عثمان رضي الله عنه في قوله:«لأحدثنكم حديثا لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه» ، ومن روى في كلام عثمان «لولا أنه في كتاب الله» فالمعنى غير هذا.
والْبَيِّناتِ وَالْهُدى: أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يعم بعد كل ما يكتم من خير، وقرأ طلحة بن صرف «من بعد ما بينه» على الإفراد، وفِي الْكِتابِ يراد به التوراة والإنجيل بحكم سبب الآية وأنها في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ثم يدخل القرآن مع تعميم الآية، وقد تقدم معنى اللعنة.
واختلف في اللاعنين فقال قتادة والربيع: الملائكة والمؤمنون، وهذا ظاهر واضح جار على مقتضى الكلام، وقال مجاهد وعكرمة: هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم.
قال القاضي أبو محمد: وذكروا بالواو والنون كمن يعقل لأنهم أسند إليهم فعل من يعقل، كما قال رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: ٤] ، وقال البراء بن عازب اللَّاعِنُونَ كل المخلوقات ما عدا الثقلين الجن والإنس، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الكافر إذا ضرب في قبره فصاح سمعه الكل إلا الثقلين فلعنه كل سامع» ، وقال ابن مسعود: المراد بها ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن كل متلاعنين إن استحقا اللعنة وإلا انصرفت على اليهود» .
قال القاضي أبو محمد: وهذه الأقوال الثلاثة لا يقتضيها اللفظ ولا تثبت إلا بسند يقطع العذر، ثم استثنى الله تعالى التائبين وقد تقدم معنى التوبة، وأَصْلَحُوا أي في أعمالهم وأقوالهم، وبَيَّنُوا قال من فسر الآية على العموم: معناه بينوا توبتهم بمبرز العمل والبروع فيه، ومن فسرها على أنها في كاتمي أمر محمد قال: المعنى بينوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم فتجيء الآية فيمن أسلم من اليهود والنصارى، وقد تقدم معنى توبة الله على عبده وأنها رجوعه به عن المعصية إلى الطاعة.