وظاهر فعلهم هذا الذي أشاروا إليه هو بخس الكيل والوزن الذي تقدم ذكره، وروي أن الإشارة هي إلى قرضهم الدينار والدرهم وإجراء ذلك مع الصحيح على جهة التدليس، قاله محمد بن كعب وغيره، وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: قطع الدراهم والدنانير من الفساد في الأرض، فتأول ذلك بهذا المعنى المتقدم، وتؤول أيضا بمعنى أنه تبديل السكك التي يقصد بها أكل أموال الناس.
واختلف في قولهم: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ فقيل: إنما كانت ألفاظهم: إنك لأنت الجاهل السفيه، فكنى الله عن ذلك وقيل: بل هذا لفظهم بعينه، إلا أنهم قالوه على جهة الاستهزاء- قاله ابن جريج وابن زيد- وقيل المعنى: إنك لأنت الحليم الرشيد عند نفسك. وقيل: بل قالوه على جهة الحقيقة وأنه اعتقادهم فيه، فكأنهم فندوه، أي أنه حليم رشيد فلا ينبغي لك أن تأمرنا بهذه الأوامر، ويشبه هذا المعنى قول اليهود من بني قريظة، حين قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا إخوة القردة» ، يا محمد ما علمناك جهولا.
قال القاضي أبو محمد: والشبه بين الأمرين إنما هو المناسبة بين كلام شعيب وتلطفه، وبين ما بادر به محمد عليه السّلام بني قريظة.
وقوله تعالى: قالَ: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ، الآية، هذه مراجعة لطيفة واستنزال حسن واستدعاء رفيق ونحوها عن محاورة شعيب عليه السّلام، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك خطيب الأنبياء. وجواب الشرط الذي في قوله: إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي محذوف تقديره: أأضل كما ضللتم وأترك تبليغ الرسالة؟ ونحو هذا مما يليق بهذه المحاجة؟ وبَيِّنَةٍ يحتمل أن تكون بمعنى: بيان أو بين، ودخلت الهاء للمبالغة- كعلامة- ويحتمل أن تكون صفة لمحذوف، فتكون الهاء هاء تأنيث.
وقوله: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً يريد: خالصا من الفساد الذي أدخلتم أنتم أموالكم. ثم قال لهم: ولست أريد أن أفعل الشيء الذي نهيتكم عنه من نقص الكيل والوزن، فأستأثر بالمال لنفسي، وما أريد إلا إصلاح الجميع، وأُنِيبُ معناه: أرجع وأتوب وأستند.