قال القاضي أبو محمد: وهذ غير لازم لأن الخبر مقرون بشرط يتضمنه قوله فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ، وسائغ ما قال الحسن، أما أن الجمهور على أنها نزلت وكفرت جماعة منهم فمسخهم الله خنازير قاله قتادة وغيره. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أشد الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة والمنافقون وآل فرعون، ويذكر أن شمعون رأس الحواريين قال لعيسى حين رأى طعام المائدة، يا روح الله أمن طعام الدنيا هو أم من طعام الآخرة؟ قال عيسى عليه السلام: ألم ينهكم الله عن هذه السؤالات، هذا طعام ليس من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة. بل هو بالقدرة الغالبة، قال الله له كن فكان، وروي أنه كان على المائدة بقول سوى الثوم والكراث والبصل، وقيل كان عليها زيتون وتمر وحب رمان.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٦ الى ١١٧]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧)
اختلف المفسرون في وقت وقوع هذا القول. فقال السدي وغيره: لما رفع الله عيسى إليه قالت النصارى ما قالت وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك، فسأله تعالى حينئذ عن قولهم فقال سُبْحانَكَ الآية.
قال القاضي أبو محمد: فتجيء قالَ على هذا متمكنة في المضي، ويجيء قوله آخرا وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ [المائدة: ١١٨] أي بالتوبة من الكفر، لأن هذا ما قاله عيسى عليه السلام وهم أحياء في الدنيا، وقال ابن عباس وقتادة وجمهور الناس: هذا القول من الله إنما هو في يوم القيامة، يقول الله له على رؤوس الخلائق، فيرى الكفار تبريه منهم، ويعلمون أن ما كانوا فيه باطل.
قال القاضي أبو محمد: وقال على هذا التأويل بمعنى يقول. ونزل الماضي موضع المستقبل دلالة على كون الأمر وثبوته، وقوله آخرا وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ [المائدة: ١١٨] معناه إن عذبت العالم كله فبحقك وإن غفرت وسبق ذلك في علمك فلأنك أهل لذلك لا معقب لحكمك ولا منازع لك، فيقول عيسى هذا على جهة التسليم والتعزي عنهم مع علمه بأنهم كفرة قد حتم عليهم العذاب، وليس المعنى أنه لا بد من أن تفعل أحد هذين الأمرين. بل قال هذا القول مع علمه بأن الله لا يغفر أن يشرك به. وفائدة هذا التوقيف على قول من قال إنه في يوم القيامة ظهور الذنب على الكفرة في عبادة عيسى وهو توقيف له يتقرر منه بيان ضلال الضالين.
وسبحانك معناه تنزيها لك عن أن يقال هذا وينطق به، وقوله ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ... الآية. بقي يعضده دليل العقل، فهذا ممتنع عقلا أن يكون لبشر محدث أن يدعي الألوهية وقد تجيء هذه الصيغة فيما لا ينبغي ولا يحسن مع إمكانه، ومنه قول الصديق رضي الله عنه: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ فوفق الله عيسى عليه السلام لهذه الحجة