ينفعهم الإقبال عليها وهم في الدنيا صم عمي إذ لا ينفعهم النظر مع إعراضهم، ثم قال: لكنهم اليوم في الدنيا فِي ضَلالٍ وهو جهل المسلك، و «المبين» في نفسه وإن لم يبين لهم، وحكى الطبري عن أبي العالية أنه قال أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ، وهي بمعنى الأمر لمحمد عليه السلام أي أسمع الناس اليوم وأبصرهم بهم وبحديثهم ماذا يصنع بهم من العذاب إذا أتوا محشورين مغلوبين، وقوله وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ، الآية، الخطاب أيضا في هذه الآية لمحمد عليه السلام والضمير في أَنْذِرْهُمْ لجميع الناس، واختلف في يَوْمَ الْحَسْرَةِ فقال الجمهور هو يوم ذبح الموت، وفي هذا حديث صحيح، وقع في البخاري وغيره، أن الموت يجاء به في صورة كبش أملح، وفي بعض الطرق كأنه كبش أملح، وقال عبيد بن عمير كأنه دابة فيذبح على الصراط بين الجنة والنار وينادى: يا أهل الجنة خلود لا موت ويا أهل النار خلود لا موت، ويروى أن أهل النار يشرئبون خوفا على ما هم فيه. و «الأمر المقضي» ، هو ذبح الكبش الذي هو مثال الموت وهذا عند حذاق العلماء، كما يقال: تدفن الغوائل وتجعل الترات تحت القدم، ونحو ذلك، وعند ذلك تصيب أهل النار حسرة لا حسرة مثلها، وقال ابن زيد وغيره يَوْمَ الْحَسْرَةِ هو يوم القيامة، وذلك أن أهل النار قد حصلوا من أول أمرهم في سخط الله وأمارته فهم في حال حسرة، و «الأمر المقضي» على هذا هو الحتم عليهم بالعذاب وظهور إنفاذ ذلك عليهم، وقال ابن مسعود يَوْمَ الْحَسْرَةِ حين يرى الكفار مقاعدهم التي فاتتهم في الجنة لو كانوا مؤمنين، ويحتمل أن يكون يَوْمَ الْحَسْرَةِ اسم جنس لأن هذه حسرات كثيرة في مواطن عدة، ومنها يوم الموت ومنها وقت أخذ الكتاب بالشمال وغير ذلك. وقوله وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ، يريد في الدنيا الآن وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ كذلك. وقوله نَرِثُ، تجوز وعبارة عن فناء المخلوقات وبقاء الخالق فكأنها وراثة، وقرأ عاصم ونافع وأبو عمرو والحسن والأعمش «يرجعون» بالياء، وقرأ الأعرج «ترجعون» بالتاء من فوق، وقرأ أبو عبد الرحمن وابن أبي إسحاق وعيسى «يرجعون» بالياء من تحت مفتوحة وكسر الجيم، وحكى عنهم أبو عمرو الداني «ترجعون» بالتاء.
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤١ الى ٤٦]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥)
قوله: وَاذْكُرْ بمعنى واتل وشهر، لأن الله تعالى هو الذاكر، والْكِتابِ هو القرآن وهذا وشبهه من لسان الصدق الذي أبقاه الله عليهم، و «الصديق» ، فعيل بناء مبالغة من الصدق، وقرأ أبو البرهسم «إنه كان صادقا» ، والصدق عرفه في اللسان وهو مطرد في الأفعال والخلق، ألا ترى أنه يستعار لما لا يعقل فيقال صدقني الطعام كذا وكذا قفيزا، ويقال عود صدق للصلب الجيد، فكان إبراهيم عليه السلام يوصف