قال القاضي أبو محمد: وروى بعض العلماء أن هذه الدرجات والتفضيل إنما هو فيما بين المؤمنين، وأسند الطبري في ذلك حديثا نصه أن بين أعلى الجنة وأسفلها درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها.
قال القاضي أبو محمد: ولكن قد رضي الله الجميع فما يغبط أحد أحدا، ولا يتمنى ذلك بدلا، وقوله لا تَجْعَلْ الآية، الخطاب لمحمد عليه السلام، والمراد لجميع الخلق قاله الطبري وغيره، والذم هنا لاحق من الله تعالى ومن ذوي العقول في أن يكون الإنسان يجعل عودا أو حجرا أفضل من نفسه، ويخصه بالكرامة وينسب إليه الألوهية ويشركه مع الله الذي خلقه ورزقه وأنعم عليه، و «الخذلان» في هذا يكون بإسلام الله وأن لا يكفل له بنصر، و «المخذول» الذي لا ينصره من يحب أن ينصره. والخاذل من الظبا التي تترك ولدها، ومن هذه اللفظة قول الراعي:
قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ... وسعى فلم أر مثله مخذولا
قَضى في هذه الآية هي بمعنى أمر وألزم وأوجب عليكم وهكذا قال الناس، وأقول إن المعنى وَقَضى رَبُّكَ أمره أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وليس في هذه الألفاظ الأمر بالاقتصار على عبادة الله فذلك هو المقضي لا نفس العبادة، وقضى في كلام العرب أتم المقضي محكما، والمقضي هنا هو الأمر، وفي مصحف ابن مسعود «ووصى ربك» وهي قراءة أصحابه، وقراءة ابن عباس والنخعي وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وكذلك عند أبي بن كعب، وقال الضحاك تصحف على قوم وصى ب «قضى» حين اختلطت الواو بالصاد وقت كتب المصحف.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف وإنما القراءة مروية بسند، وقد ذكر أبو حاتم عن ابن عباس مثل قول الضحاك، وقال عن ميمون بن مهران: إنه قال إن على قول ابن عباس لنورا، قال الله تعالى شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الشورى: ١٣] ثم ضعف أبو حاتم أن يكون ابن عباس قال ذلك، وقال لو قلنا هذا الطعن الزنادقة في مصحفنا، والضمير في تَعْبُدُوا لجميع الخلق، وعلى هذا التأويل مضى السلف والجمهور، وسأل الحسن بن أبي الحسن رجل فقال له: إنه طلق امرأته ثلاثا فقال له الحسن: عصيت ربك وبانت منك امرأتك، فقال له الرجل قضي ذلك علي، فقال له الحسن وكان فصيحا، ما قضى الله أي ما أمر الله، وقرأ هذه الآية، فقال الناس: تكلم الحسن في القدر.