ورحمة، ولما تقرر أن البينة قد جاءت والحجة قد قامت حسن بعد ذلك أن يقع التقرير بقوله فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بهذه الآيات البينات، وَصَدَفَ معناه حاد وراغ وأعرض، وقرأ يحيى بن وثاب وابن أبي عبلة «كذب» بتخفيف الذال، والجمهور «كذّب» بتشديد الذال، وسَنَجْزِي الَّذِينَ وعيد، وقرأت فرقة «يصدفون» بكسر الدال وقرأت فرقة «يصدفون» بضم الدال.
قوله عز وجل:
[[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٨]]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨)
الضمير في يَنْظُرُونَ هو للطائفة التي قيل لها قبل فقد جاءكم بينة من ربكم وهم العادلون بربهم من العرب الذين مضت أكثر آيات السورة في جدالهم، ويَنْظُرُونَ معناه ينتظرون، والْمَلائِكَةُ هنا يراد بها ملائكة الموت الذين يصحبون عزرائيل المخصوص بقبض الأرواح، قاله مجاهد وقتادة وابن جريج.
ويحتمل أن يريد الملائكة الذين يتصرفون في قيام الساعة، وقرأ حمزة والكسائي «إلا أن يأتيهم» بالياء، وقرأ الباقون «تأتيهم» بالتاء من فوق، وقوله أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ قال الطبري: لموقف الحساب يوم القيامة، وأسند ذلك إلى قتادة وجماعة من المتأولين، ويحكي الزجاج أن المراد بقوله أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أي العذاب الذي يسلطه الله في الدنيا على من يشاء من عباده كالصيحات والرجفات والخسف ونحوه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الكلام على كل تأويل فإنما هو بحذف مضاف تقديره أمر ربك أو بطش ربك أو حساب ربك وإلا فالإتيان المفهوم من اللغة مستحيل في حق الله تعالى. ألا ترى أن الله تعالى يقول فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر: ٢] فهذا إتيان قد وقع وهو على المجاز وحذف المضاف، وقوله:
أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ أما ظاهر اللفظ لو وقفنا معه فيقتضي أنه توعدهم بالشهير الفظيع من أشراط الساعة دون أن يخص من ذلك شرطا يريد بذلك الإبهام الذي يترك السامع مع أقوى تخيله، لكن لما قال بعد ذلك يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها وبينت الآثار الصحاح في البخاري ومسلم أن الآية التي معها هذا الشرط هي طلوع الشمس من المغرب، قوى أن الإشارة بقوله أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ إنما هي إلى طلوع الشمس من مغربها، وقال بهذا التأويل مجاهد وقتادة والسدي وغيرهم، ويقوي أيضا أن تكون الإشارة إلى غرغرة الإنسان عند الموت أو ما يكون في مثابتها لمن لم يغرغر.
ففي الحديث أن توبة العبد تقبل ما لم يغرغر، وهذا إجماع لأن من غرغر وعاين فهو في عداد الموتى، وكون المرء في هذه الحالة من آيات الله تعالى، وهذا على من يرى الملائكة المتصرفين في قيام الساعة.
قال القاضي أبو محمد: فمقصد هذه الآية تهديد الكافرين بأحوال لا يخلون منها كأنه قال: هل ينظرون مع إقامتهم على الكفر إلا الموت الذي لهم بعده أشد العذاب، والأخذات المعهودة لله عز وجل، أو الآيات التي ترفع التوبة وتعلم بقرب القيامة.