المراد بهذه الآية إلى قوله مَصِيراً جماعة من أهل مكة كانوا قد أسلموا وأظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم الإيمان به، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا مع قومهم، وفتن منهم جماعة فافتتنوا، فلما كان أمر بدر خرج منهم قوم مع الكفار فقتلوا ببدر، فنزلت الآية فيهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما، كان قوم من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يستخفون بإسلامهم، فأخرجهم المشركون يوم بدر فأصيب بعضهم، فقال المسلمون كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ الآية. قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية، أن لا عذر لهم، فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم هذه الآية الأخرى، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ [العنكبوت: ١٠] الآية فكتب إليهم المسلمون بذلك فخرجوا ويئسوا من كل خير. ثم نزلت فيهم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: ١١٠] فكتبوا إليهم بذلك، أن الله قد جعل لكم مخرجا فخرجوا فلحقهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل، وقال عكرمة: نزلت هذه الآية في خمسة قتلوا ببدر، وهم قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود بن أسد، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو العاصي بن منبه بن الحجاج، وعلي بن أمية بن خلف، قال النقاش: في أناس سواهم أسلموا ثم خرجوا إلى بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: غر هؤلاء دينهم.
قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-: وكان العباس ممن خرج مع الكفار لكنه نجا وأسر، وكان من المطعمين في نفير بدر، قال السدي: لما أسر العباس وعقيل ونوفل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: افد نفسك وابن أخيك، فقال له العباس: يا رسول الله، ألم نصل قبلتك ونشهد شهادتك؟ قال «يا عباس: إنكم خاصمتم فخصمتم» ، ثم تلا عليه هذه الآية أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها قال السدي: فيوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر فهو كافر حتى يهاجر، إلا من لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا.
قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-: وفي هذا الذي قاله السدي نظر، والذي يجري مع الأصول أن من مات من أولئك بعد أن قبل الفتنة وارتد فهو كافر ومأواه جهنم على جهة الخلود، وهذا هو ظاهر أمر تلك الجماعة وإن فرضنا فيهم من مات مؤمنا وأكره على الخروج، أو مات بمكة فإنما هو عاص في ترك الهجرة، مأواه جهنم على جهة العصيان دون خلود، لكن لما لم يتعين أحد أنه مات على الإيمان لم يسغ ذكرهم في الصحابة، ولم يعتد بما كان عرف منهم قبل، ولا حجة للمعتزلة في شيء من أمر هؤلاء على