للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجمع بعدها، كقولك: تقدموا وتأخروا، وهي لفظة مأخوذة من العلو، لما استعملت في دعاء الإنسان وجلبه وأشخاصه، سيقت من العلو تحسينا للأدب، كما تقول: ارتفع إلى الحق، ونحوه، ورَأَيْتَ هي رؤية عين لمن صد من المنافقين مجاهرة وتصريحا، وهي رؤية قلب لمن صد منهم مكرا وتخابثا ومسارقة حتى لا يعلم ذلك منه إلا بالتأويل عليه والقرائن الصادرة عنه، فإذا كانت رؤية عين ف يَصُدُّونَ في موضع نصب على الحال، وإذا كانت رؤية قلب ف يَصُدُّونَ نصب على المفعول الثاني، وصُدُوداً مصدر عند بعض النحاة من صد، وليس عند الخليل بمصدر منه، والمصدر عنده «صدا» وإنما ذلك لأن فعولا إنما هو مصدر للأفعال غير المتعدية. كجلس جلوسا، وقعد قعودا و «صد» فعل متعد بنفسه مرة كما قال: فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ [النمل: ٢٤- العنكبوت: ٣٨] ، ومرة بحرف الجر كقوله تعالى: يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً وغيره، فمصدره: صد، وصُدُوداً اسم.

قوله تعالى:

[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]

فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤)

قالت فرقة: هي في المنافقين الذين احتكموا حسب ما تقدم، فالمعنى: فكيف بهم إذا عاقبهم الله بهذه الذنوب بنقمة منه؟ ثم حلفوا إن أردنا بالاحتكام إلى الطاغوت إلا توفيق الحكم وتقريبه، دون مر الحكم وتقصي الحق، وقالت فرقة: هي في المنافقين الذين طلبوا دم الذي قتله عمر، فالمعنى: فَكَيْفَ بهم إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ في قتل قريبهم ومثله من نقم الله تعالى، ثم إنهم حلفوا ما أرادوا بطلب دمه إِلَّا إِحْساناً وحقا، نحا إليه الزجّاج، وموضع «كيف» نصب بفعل تقديره: فكيف تراهم ونحوه، ويصح أن يكون موضعها رفعا، تقديره: فكيف صنيعهم.

وقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ تكذيب المنافقين المتقدم ذكرهم وتوعدهم، أي فهو مجازيهم بما يعلم، و «أعرض عنهم» يعني عن معاقبتهم، وعن شغل البال بهم، وعن قبول أيمانهم الكاذبة في قوله يَحْلِفُونَ وليس بالإعراض الذي هو القطيعة والهجر، فإن قوله: وَعِظْهُمْ يمنع من ذلك، وَعِظْهُمْ معناه بالتخويف من عذاب الله، وغيره من المواعظ، والقول البليغ اختلف فيه، فقيل:

هو الزجر والردع والكف بالبلاغة من القول، وقيل: هو التوعد بالقتل إن استداموا حالة النفاق، قاله الحسن، وهذا أبلغ ما يكون في نفوسهم، والبلاغة: مأخوذة من بلوغ المراد بالقول، وحكي عن مجاهد أن قوله: فِي أَنْفُسِهِمْ، متعلق بقوله: مُصِيبَةٌ وهو مؤخر بمعنى التقديم، وهذا ضعيف.

<<  <  ج: ص:  >  >>