قال القاضي أبو محمد: وهذا التحريم الذي ذكرناه يفهمه الفصحاء من اللفظ وليس في المعنى منه شيء وإنما هو إيماء، وكذلك جعل في موضع آخر غايته أن لا إثم عليه، وإن كان لا إثم عليه وقوله هو له مباح يرجعان إلى معنى واحد فإن في هيئة اللفظين خلافا.
هذه الآية مخاطبة للكفار الذين حرموا البحائر والسوائب وأحلوا ما في بطون الأنعام وإن كانت ميتة يدل على ذلك قوله حكاية عنهم وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ [الأنعام: ١٣٩] والآية تقتضي كل ما كان لهم من تحليل وتحريم فإنه كله افتراء منهم، ومنه ما جعلوه في الشهور، وقرأ السبعة وجمهور الناس «الكذب» بفتح الكاف وكسر الذال وفتح الباء، و «ما» مصدرية فكأنه قال لوصف ألسنتكم الكذب، وقرأ الأعرج وأبو طلحة وأبو معمر والحسن، «الكذب» بخفض الباء على البدل من «ما» ، وقرأ بعض أهل الشام ومعاذ بن جبل وابن أبي عبلة «الكذب» بضم الكاف والذال والباء على صفحة الألسنة، وقرأ مسلمة بن محارب «الكذب» بفتح الباء «الكذب» بفتح الباء على أنه جمع كذاب ككتب في جمع كتاب، وقوله هذا حَلالٌ إشارة إلى ميتة بطون الأنعام وكل ما أحلوا، وقوله وَهذا حَرامٌ إشارة إلى البحائر والسوائب وكل ما حرموا، وقوله لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، إشارة إلى قولهم في فواحشهم التي هذه إحداها، وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يريد أنه كان شرعهم لاتباعهم سننا لا يرضاها الله افتراء عليه، لأن من شرع أمرا فكأنه قال لأتباعه هذا هو الحق، وهذا مراد الله، ثم أخبرهم الله إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يبلغون الأمل، و «الفلاح» بلوغ الأمل، فطورا يكون في البقاء كما قال الشاعر، والصبح والمسى لا فلاح معه، ويشبه أن هذه الآية من هذا المعنى، يقوي ذلك قوله مَتاعٌ قَلِيلٌ، وقد يكون في المساعي ومنه قول عبيد:[الرجز]
أفلح بما شئت فقد يبلغ ... بالضعف وقد يخدع الأريب
وقوله مَتاعٌ قَلِيلٌ إشارة إلى عيشهم في الدنيا، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بعد ذلك في الآخرة. وقوله وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا الآية، لما قص تعالى على المؤمنين ما حرم عليهم أعلم أيضا بما حرم على اليهود ليبين تبديلهم الشرع فيما استحلوا من ذلك وفيما حرموا من تلقاء أنفسهم، وقولهم ما قَصَصْنا عَلَيْكَ، إشارة إلى ما في سورة الأنعام «من ذي الظفر والشحوم» الآية: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ