ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي
فهذا التأسي قد كفاها مؤونة قتل النفس، فنفى الله تعالى عنهم الانتفاع بالتأسي، وفي ذلك تعذيب لهم ويأس من كل خير، وفاعل قوله: يَنْفَعَكُمُ الاشتراك.
وقرأ جمهور القراء:«أنكم» بفتح الألف. وقرأ ابن عامر وحده:«إنكم» بكسر الألف، وقد يجوز أن يكون الفاعل يَنْفَعَكُمُ التبري الذي يدل عليه قوله: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ وعلى هذا يكون «أنكم» في موضع نصب على المفعول من أجله، وتخرج الآية على معنى نفي الأسوة.
لما ذكر تعالى حال الكفرة في الآخرة وما يقال لهم وهم في العذاب، اقتضى ذلك أن تشفق النفوس، وأن ينظر كل سامع لنفسه ويسعى في خلاصها، فلما كانت قريش مع هذا الذي سمعت لم تزل عن عتوها وإعراضها عن أمر الله، رجعت المخاطبة إلى محمد عليه السلام على جهة التسلية له عنهم وشبههم ب الصُّمَّ والْعُمْيَ، إذ كانت حواسهم لا تفيد شيئا.
وقوله: وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يريد بذلك قريشا بأنفسهم، ولذلك لم يقل:«من كان» بل جاء بالواو العاطفة، كأنه يقول: وهؤلاء، ويؤيد ذلك أيضا عود الضمير عليهم في قوله: فَإِنَّا مِنْهُمْ ولم يجر لهم ذكر إلا في قوله: وَمَنْ كانَ.
وقوله تعالى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ الآية تتضمن وعيدا واقعا، وذهب جمهور العلماء إلى أن المتوعدين هم الكفار، وأن الله تعالى أرى نبيه الذي توعدهم في بدر والفتح وغير ذلك، وذهب الحسن وقتادة إلى أن المتوعدين هم في هذه الأمة، وأن الله تعالى أكرم نبيه على أن ينتقم منهم بحضرته وفي حياته، فوقعت النقمة منهم بعد أن ذهب به، وذلك في الفتن الحادثة في صدر الإسلام مع الخوارج وغيرهم، قال الحسن وقتادة: أكرم الله نبيه على أن يرى في أمته ما يكره كما رأى الأنبياء، فكانت بعد ذهابه صلى الله عليه وسلم، وقد روي حديث عن جابر بن عبد الله أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ فقال: بعلي بن أبي طالب والقول الأول من توعد الكفار أكثر، ثم أمر تعالى نبيه بالتمسك بما جاء من عند الله من الوحي المتلو وغيره. والصراط: الطريق.