للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)

هذا أمر بالدعاء وتعبد به، ثم قرر عز وجل بالأمر به صفات تحسن معه، وقوله: تَضَرُّعاً معناه بخشوع واستكانة، والتضرع لفظة تقتضي الجهر لأن التضرع إنما يكون بإشارات جوارح وهيئات أعضاء تقترن بالطلب، وَخُفْيَةً يريد في النفس خاصة، وقد أثنى الله عز وجل على ذلك في قوله إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مريم: ٣] ونحو هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: خير الذكر الخفي، والشريعة مقررة أن السر فيما لم يعترض من أعمال البر أعظم أجرا من الجهر، وتأول بعض العلماء «التضرع والخفية» في معنى السر جميعا، فكأن التضرع فعل للقلب، ذكر هذا المعنى الحسن بن أبي الحسن، وقال: لقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض عمل يقدرون أن يكون سرا فيكون جهرا أبدا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء فلا يسمع لهم صوت، إن هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مريم: ٣] وقال الزجاج ادْعُوا رَبَّكُمْ معناه اعبدوا ربكم تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً أي باستكانة واعتقاد ذلك في القلوب، وقرأ جميع السبعة «وخفية» بضم الخاء، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر هنا وفي الأنعام و «خفية» بكسرها وهما لغتان، وقد قيل إن «خفية» بكسر الخاء بمعنى الخوف والرهبة، ويظهر ذلك من كلام أبي علي.

وقرأت فرقة «وخيفة» من الخوف، أي ادعوه باستكانة وخوف ذكرها ابن سيده في المحكم ولم ينسبها، وقال أبو حاتم قرأها الأعمش فيما زعموا، وقوله: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ يريد في الدعاء وإن كان اللفظ عاما، فإلى هذا هي الإشارة، والاعتداء في الدعاء على وجوه، منها الجهر الكثير والصياح كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوم- وقد رفعوا أصواتهم بالتكبير-: «أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا» ومنها أن يدعو الإنسان في أن تكون له منزلة نبي أو يدعو في محال ونحو هذا من التشطط، ومنها أن يدعو طالبا معصية وغير ذلك، وفي هذه الأسئلة كفاية، وقرأ ابن أبي عبلة «إن الله لا يحب المعتدين» ، والمعتدي هو مجاوز الحد ومرتكب الحظر، وقد يتفاضل بحسب ما اعتدى فيه وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سيكون أقوام يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول:

اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل» .

وقوله تعالى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ الآية، ألفاظ عامة تتضمن كل إفساد قلّ أو كثر بعد إصلاح، قل أو كثر، والقصد بالنهي هو على العموم وتخصيص شيء دون شيء في هذا تحكم إلا أن يقال على وجهة المثال، قال الضحاك: معناه لا تغوروا الماء المعين ولا تقطعوا الشجر المثمر ضرارا، وقد ورد قطع الدينار والدرهم من الفساد في الأرض، وقد قيل تجارة الحكام من الفساد في الأرض، وقال بعض الناس: المراد ولا تشركوا في الأرض بعد أن أصلحها الله ببعثة الرسل وتقرير الشرائع ووضوح ملة محمد صلى الله عليه وسلم، وقائل هذه المقالة قصد إلى أكبر فساد بعد أعظم صلاح فخصه بالذكر.

<<  <  ج: ص:  >  >>