لنفحات الرحمة والتذكير، وعلى هذا القدر وقع عتابه، ولذلك جاء بتلطف وترفيع في قوله: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ، وقد قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: فَلا تَكُونَنَّ [البقرة: ١٤٧، الأنعام: ٣٤- ١١٤، يونس: ٩٤] ، وذلك هنا بحسب الأمر الذي عوتب فيه وعظمته، فإنه لضيق صدره بتكاليف النبوة، وإلا فمتقرر أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل البشر وأولاهم بلين المخاطبة ولكن هذا بحسب الأمرين لا بحسب النبيين. وقال قوم: إنما وقر نوح لسنه. وقال قوم: إنما حمل اللفظ على محمد صلى الله عليه وسلم كما يحمل الإنسان على المختص به الحبيب إليه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله ضعيف، ويحتمل قوله: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، أي لا تطلب مني أمرا لا تعلم المصلحة فيه علم يقين، ونحا إلى هذا أبو علي الفارسي، وقال: إن بِهِ يجوز أن يتعلق بلفظة عِلْمٌ كما قال الشاعر: [الرجز] كان جزائي بالعصا أن أجلدا ويجوز أن يكون بِهِ بمنزلة فيه، فتتعلق الباء بالمستقر.
قال القاضي أبو محمد: واختلاف هذين الوجهين إنما هو لفظي، والمعنى في الآية واحد، وروي أن هذا الابن إنما كان ربيبه وهذا ضعيف وحكى الطبري عن ابن زيد أن معنى قوله: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ في أن تعتقد أني لا أفي لك بوعد وعدتك به.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل بشع، وليس في الألفاظ ما يقتضي أن نوحا اعتقد هذا وعياذا بالله، وغاية ما وقع لنوح عليه السّلام أن رأى ترك ابنه معارضا للوعد فذكر به، ودعا بحسب الشفقة ليكشف له الوجه الذي استوجب به ابنه الترك في الغرقى.
هذه الآية فيها إنابة نوح وتسليمه لأمر الله تعالى واستغفاره بالسؤال الذي وقع النهي عليه والاستعاذة والاستغفار منه هو سؤال العزم الذي معه محاجة وطلبة ملحة فيما قد حجب وجه الحكمة فيه وأما السؤال في الأمور على جهة التعلم والاسترشاد فغير داخل في هذا.
وظاهر قوله: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [هود: ٤٦] يعم النحويين من السؤال، فلذلك نبهت على أن المراد أحدهما دون الآخر، و «الخاسرون» هم المغبونون حظوظهم من الخير، وقوله تعالى: قِيلَ