للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال القاضي أبو محمد: وفي لَنُبَوِّئَنَّهُمْ أو «لنثوينهم» على هذا التأويل في لسان الصدق تجوز كثير واستعارة بعيدة، وهذا على أن حَسَنَةً هي المباءة والمثوى، وأن الفعل الظاهر عامل فيها، وقال أبو الفتح: نصبها على معنى نحسن إليهم في ذلك إحسانا، وجعلت حَسَنَةً موضع إحسانا، وذهبت فرقة إلى أن الحسنة عامة في كل ما يستحسن أن يناله ابن آدم وتخف الاستعارة المذكورة على هذا التأويل، وفي هذا القول يدخل ما روي عن عمر بن الخطاب أنه كان يعطي المال وقت القسمة للرجل من المهاجرين ويقول له: خذ ما وعدك الله في الدنيا، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ، ثم يتلو هذه الآية.

قال القاضي أبو محمد: ويدخل في هذا القول النصر على العدو وفتح البلاد، وكل أمل أبلغه المهاجرون، و «أجر الآخرة» هنا إشارة إلى الجنة، والضمير في يَعْلَمُونَ عائد إلى كفار قريش، وجواب لَوْ مقدر محذوف، ومفعول يَعْلَمُونَ كذلك، وفي هذا نظر، وقوله الَّذِينَ صَبَرُوا من صفة المهاجرين الذين وعدهم الله، والصبر يجمع عن الشهوات وعلى المكاره في الله تعالى، و «التوكل» تتفاضل مراتبه، فمطيل فيه وذلك مباح حسن ما لم يغل حتى يسبب الهلاك، ومتوسط يسعى جميلا، وهذا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «قيدها وتوكل» ، ومقصر لا نفع في تقصيره وإنما له ما قدر له، وقوله وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ الآية، هذه الآية رد على كفار قريش الذين استبعدوا أن يكون البشر رسولا من الله تعالى، فأعلمهم الله تعالى مخاطبا لمحمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يرسل إلى الأمم إِلَّا رِجالًا. ولم يرسل ملكا ولا غير ذلك، ورِجالًا منصوب ب أَرْسَلْنا وإِلَّا إيجاب، وقرأ الجمهور بضم الياء وفتح الحاء، وقرأت فرقة «يوحي» بضم الياء وكسر الحاء، وقرأ عاصم من طريق حفص وحده «نوحي» بالنون وكسر الحاء، وهي قراءة ابن مسعود وطلحة بن مصرف وأبي عبد الرحمن ثم قال تعالى فَسْئَلُوا، وأَهْلَ الذِّكْرِ هنا اليهود والنصارى، قاله ابن عباس ومجاهد والحسن، وقال الأعمش وسفيان بن عيينة:

المراد من أسلم منهم، وقال ابن جبير وابن زيد: أَهْلَ الذِّكْرِ أهل القرآن.

قال القاضي أبو محمد: وهذان القولان فيهما ضعف، لأنه لا حجة على الكفار في إخبار المؤمنين بما ذكر، لأنهم يكذبون هذه الصنائف، وقال الزجاج: أَهْلَ الذِّكْرِ هنا أحبار اليهود والنصارى الذين لم يسلموا، وهم في هذه النازلة خاصة إنما يخبرون بأن الرسل من البشر، وإخبارهم حجة على هؤلاء، فإنهم لم يزالوا مصدقين لهم ولا يتهمون لشهادة لنا لأنهم مدافعون في صدر ملة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا هو كسر حجتهم من مذهبهم، لا أنّا افتقرنا إلى شهادة هؤلاء، بل الحق واضح في نفسه، وقد أرسلت قريش إلى يهود يثرب يسألون ويستندون إليهم، وقوله بِالْبَيِّناتِ متعلق بفعل مضمر تقديره أرسلناهم بالبينات، وقالت فرقة الباء متعلقة ب أَرْسَلْنا في أول الآية، والتقدير على هذا وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالا، ففي الآية تقديم وتأخير، وَالزُّبُرِ الكتب المزبورة، تقول زبرت ودبرت إذا كتبت، والذِّكْرَ في هذه الآية القرآن، وقوله لِتُبَيِّنَ يحتمل أن يريد لتبين بسردك نص القرآن ما نزل، ويحتمل أن يريد لتبين بتفسيرك المجمل، وشرحك ما أشكل مما نزل، فيدخل في هذا ما بينته السنة من أمر الشريعة، وهذا قول مجاهد.

<<  <  ج: ص:  >  >>