رأى ذلك موسى غلبه ظاهر الأمر على الكلام حين رأى فعلا يؤدي إلى غرفة جميع من في السفينة، فوقفه بقوله أَخَرَقْتَها وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم «لتغرق أهلها» بالتاء وقرأ أبو رجاء «لتغرّق» بشد الراء وفتح الغين، وقرأ حمزة والكسائي «ليغرق أهلها» برفع الأهل، وإسناد الفعل إليهم و «الإمر» الشنيع من الأمور كالداهية والإد ونحوه، ومنه أمر أمر ابن أبي كبشة ومنه أمر القوم إذا كثروا، وقال مجاهد «الإمر» المنكر.
قال القاضي أبو محمد: والأمر أخص من المنكر، فقال الخضر مجاوبا لموسى: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً فتنبه موسى لما أتى معه، فاعتذر بالنسيان، وذلك أنه نسي العهد الذي كان بينهما، هذا قول الجمهور، وفي كتاب التفسير من صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«كانت الأولى من موسى نسيانا» ، وفيه عن مجاهد أنه قال «كانت الأولى نسيانا» ، والثانية شرطا، والثالثة عمدا، وهذا كلام معترض لأن الجميع شرط ولأن العمد يبعد على موسى عليه السلام، وإنما هو التأويل إذ جنب صيغة السؤال أو النسيان، وروى الطبري عن أبي بن كعب أنه قال: إن موسى عليه السلام لم ينس، ولكن قوله هذا من معاريض الكلام، ومعنى هذا القول صحيح، والطبري لم يبينه، ووجهه عندي أن موسى عليه السلام إنما رأى العهد في أن يسأل ولم ير إنكار هذا الفعل الشنيع سؤالا بل رآه واجبا، فلما رأى الخضر قد أخذ العهد على أعم وجوهه فضمنه السؤال والمعارضة والإنكار وكل اعتراض إذ السؤال أخف من هذه كلها أخذ معه في باب المعاريض، التي هي مندوحة عن الكذب، فقال له لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ ولم يقل له: إني نسيت العهد، بل قال لفظا يعطي للمتأول أنه نسي العهد، ويستقيم أيضا تأويله وطلبه، مع أنه لم ينس العهد لأن قوله لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ كلام جيد طلبه، وليس فيه للعهد ذكر هل نسيه أم لا، وفيه تعريض أنه نسي العهد، فجمع في هذا اللفظ بين العذر والصدق وما يخل بهذا القول إلا أن الذي قاله وهو أبي بن كعب روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«كانت الأولى من موسى نسيانا» وتُرْهِقْنِي معناه تكلفني وتضيف علي ومما قص من أمرهما، أنهما لما ركبا السفينة وجرت، نزل عصفور على جنب السفينة، فنقر في الماء نقرة، فقال الخضر لموسى، ماذا ترى هذا العصفور نقص من ماء البحر؟ فقال موسى قليلا، فقال: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا ما نقص هذا العصفور من ماء البحر.
قال القاضي أبو محمد: فقيل معنى هذا الكلام وضع العلم موضع المعلومات، وإلا فعلم الله تعالى يشبه بمتناه إذ لا يتناهى، والبحر لو فرضت له عصافير على عدد نقطه لانتهى، وعندي أن الاعتراض باق لأن تناهي معلومات الله محال، إذ يتناهى العلم بتناهي المعلومات، وقيل فرارا عن هذا الاعتراض، يحتمل أن يريد من علم الله الذي أعطاه العلماء قبلهما، وبعدهما إلى يوم القيامة، فتجيء نسبة علمهما إلى البشر نسبة تلك النقطة إلى البحر، وهذا قول حسن لولا أن في بعض طرق الحديث «ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كنقرة هذا العصفور» ، فلم يبق مع هذا إلا أن يكون التشبيه بتجوز، إذ لا يوجد في المحسوسات أقوى في القلة من نقطة بالإضافة إلى البحر، فكأنها لا شيء إذ لا يوجد لها إلى البحر نسبة معلومة، ولم يعن الخضر لتحرير موازنة بين المثال وبين علم الله تعالى.