و «الأمر» هنا واحد الأمور وليس بمصدر أمر يأمر وروي أن جبريل عليه السلام حين قاولها هذه المقاولة «نفخ في جيب درعها» فسرت النفخة بإذن الله حتى حملت منها قاله وهب بن منبه وغيره، وقال ابن جريج: نفخ في جيب درعها وكمها وقال أبي بن كعب «دخل الروح المنفوخ من فمها» فذلك قوله تعالى: فَحَمَلَتْهُ أي حملت الغلام، ويذكر أنها كانت بنت ثلاث عشرة سنة، فلما أحست بذلك وخافت تعنيف الناس وأن يظن بها الشر «انتبذت به» أي تنحت مَكاناً بعيدا حياء وفرارا على وجهها، وروي في هذا أنها فرت إلى بلاد مصر أو نحوها قاله وهب بن منبه، وروي أيضا أنها خرجت إلى موضع يعرف (ببيت لحم) بينه وبين إيلياء أربعة أميال و «أجاءها» معناه، فاضطرها وهو تعدية جاء بالهمزة وقرأ شبل بن عزرة ورويت عن عاصم «فاجأها» من المفاجأة وفي مصحف أبي بن كعب «فلما أجاءها المخاض» .
وقال زهير:[الوافر]
وجار سار معتمدا إليكم ... أجاءته المخافة والرجاء
وقرأ الجمهور «المخاض» بفتح الميم، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو «الطلق وشدة الولادة وأوجاعها» ، روي أنها بلغت إلى موضع كان فيه «جذع نخلة» بال يابس في أصله مذود بقرة على جرية ماء فاشتد بها الأمر هنالك واحتضنت الجذع لشدة الوجع وولدت عيسى عليه السلام فقالت عند ولادتها لما رأته من الآلام والتغرب وإنكار قومها وصعوبة الحال من غير ما وجه، يا لَيْتَنِي مِتُّ ولم يجر علي هذا القدر، وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة وعاصم وأبو عمرو وجماعة «مت» بضم الميم، وقرأ الأعرج وطلحة ويحيى والأعمش «مت» بكسرها واختلف عن نافع، وتمنت مريم الموت من جهة الدين إذ خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك وهذا مباح، وعلى هذا الحد تمناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجماعة من الصالحين ونهي النبي عليه السلام عن تمني الموت إنما هو لضر نزل بالبدن وقد أباحه عليه السلام في قوله:«يأتي على الناس زمان يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه» .
قال القاضي أبو محمد: لأنه زمن فتن يذهب بالدين، وَكُنْتُ نَسْياً أي شيئا متروكا محتقرا، و «النسي» في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى فلا يتألم لفقده، كالوتد والحبل للمسافر ونحوه، ويقال «نسي» بكسر النون و «نسي» بفتحها، وقرأ الجمهور بالكسر، وقرأ حمزة وحده بالفتح، واختلف عن عاصم، وكقراءة حمزة، قرأ طلحة ويحيى والأعمش، وقرأ محمد بن كعب القرظي بالهمز «نسئا» بكسر النون، وقرأ نوف البكالي «نسأ» بفتح النون، وحكاها أبو الفتح والداني عن محمد بن كعب، وقرأ بكر بن حبيب «نسّا» بشد السين وفتح النون دون همز، وقال الشنفري:[الطويل]
كأنّ لها في الأرض نسّا تقصه ... إذا ما غذت وإن تحدثك تبلت
وحكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى حملت أيضا أختها بيحيى، فجاءتها أختها زائرة فقالت «يا مريم أشعرت أني حملت» ، قالت لها مريم «أشعرت أنت أني حملت» ، قالت لها «وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك» وذلك أنه روي أنها أحست جنينها يخر برأسه إلى ناحية بطن مريم، قال السدي فذلك قوله تعالى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران: ٣٩] وفي هذا كله ضعف فتأمله. وكذلك