أنه خبر من الله أن جبريل لا يتنزل، قال هذا التأويل بعض المفسرين، ويرده قوله ما بَيْنَ أَيْدِينا لأنه لا يطرد معه وإنما يتجه أن يكون خبرا من جبريل أن القرآن لا يتنزل إلا بأمر الله في الأوقات التي يقدرها.
ورويت قراءة الأعرج بضم الياء، وقرأ ابن مسعود «إلا بقول ربك» ، وقال ابن عباس وغيره: سبب هذه الآية، أن النبي عليه السلام أبطأ عنه جبريل مرة فلما جاءه قال «يا جبريل قد اشتقت إليك أفلا تزورنا أكثر مما تزورنا» ، فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد والضحاك: سببها أن جبريل تأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم عند قوله في السؤالات المتقدمة في سورة الكهف «غدا أخبركم» حتى فرح بذلك المشركون واهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء جبريل ونزلت هذه في ذلك المعنى، فهي كالتي في الضحى، وهذه الواو التي في قوله وَما نَتَنَزَّلُ هي عاطفة جملة كلام على أخرى وواصلة بين القولين وإن لم يكن معناهما واحدا. وحكى النقاش عن قوم أن قوله وَما نَتَنَزَّلُ متصل بقوله إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
[مريم: ١٩] ، وهذا قول ضعيف، وقوله ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ لفظ يحتاج إلى ثلاث مراتب، واختلف المفسرون فيها، فقال أبو العالية «ما بين الأيدي» في الدنيا بأسرها إلى النفخة الأولى، «وما خلف» الآخرة من وقت البعث وَما بَيْنَ ذلِكَ ما بين النفختين. وقال ابن جريج «ما بين الأيدي» هو ما مر من الزمن قبل إيجاد من في الضمير، «وما خلف» هو ما بعد موتهم إلى استمرار الآخرة وَما بَيْنَ ذلِكَ هو مدة الحياة.
قال القاضي أبو محمد: والآية إنما المقصد بها الإشعار بملك الله تعالى لملائكة وأن قليل تصرفهم وكثيرة إنما هو بأمره وانتقالهم من مكان إلى مكان، إنما هو بحكمته إذ الأمكنة له وهم له، فلو ذهب بالآية إلى أن المراد ب «ما بين الأيدي وما خلف» الأمكنة التي فيها تصرفهم، والمراد ب ما بَيْنَ ذلِكَ هم أنفسهم ومقاماتهم لكان وجهها كأنه قال نحن مقيدون بالقدرة لا ننتقل ولا نتتزل إلا بأمر ربك. وقال ابن عباس وقتادة فيما روي وما أراه صحيحا عنهما «ما بين الأيدي هي الآخرة وما خلف هو الدنيا» ، وهذا مختل المعنى إلا على التشبيه بالمكان لأن ما بين اليد إنما هو ما تقدم وجوده في الزمن بمثابة التوراة والإنجيل من القرآن وقول أبي العالية إنما يتصور في بني آدم وهذه المقالة هي للملائكة فتأمله. وقوله وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا أي ممن يلحقه نسيان بعثنا إليكم في وقت المصلحة به فإنما ذلك عن قدر له أي فلا تطلب أنت يا محمد الزيارة أكثر مما شاء الله هذا ما تقتضيه قوة الكلام على التأويل الواحد أو فلا تهتم يا محمد بتأخيري ولا تلفت لفرح المشركين بذلك على التأويل الثاني ونَسِيًّا فعيل من النسيان والذهول عن الأمور، وقالت فرقة نَسِيًّا هنا معناه تاركا، ع: وفي هذا ضعف لأنه إنما نفي النسيان مطلقا فيتمكن ذلك في النسيان الذي هو نقص وأما الترك فلا ينتفي مطلقا ألا ترى قوله تعالى: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ [البقرة: ١٧] وقوله وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الكهف: ٩٩] فلو قال نسيك أو نحوه من التقييد لصح حمله على الترك، ولا حاجة بنا أن نقول إن التقييد في النية لأن المعنى الآخر أظهر. وقرأ ابن مسعود «وما بين ذلك وما نسيك ربك» ، وروى أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهي عافيته فاقبلوا» ثم تلا هذه الآية وقوله رَبُّ بدل من قوله وَما كانَ رَبُّكَ، وقوله فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ أمر بحمل تكاليف الشرع وإشعار ما بصعوبتها كالجهاد