ثم ذكر تعالى الآية في اللَّيْلَ وكونه وقت سكون واتداع لجميع الحيوان والمهم من ذلك بنو آدم، وكون النَّهارَ مُبْصِراً أي ذا إبصار، وهذا كما تقول ليل قائم ونهار صائم، ومعنى ذلك يقام فيه ويصام، فكذلك هذا، معناه يبصر فيه فهو لذلك ذو إبصار، ثم تجوز بأن قيل مُبْصِراً فهو على النسب كعيشة راضية، و «الآيات» في ذلك هي للمؤمنين والكافرين، هي آية لجميعهم في نفسها، لكن من حيث الانتفاع بها والنظر النافع إنما هو للمؤمنين فلذلك خصوا بالذكر، ثم ذكر تعالى يوم يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، وهو القرن في قول جمهور الأمة، وهو مقتضى الأحاديث، وقال مجاهد: هو كهيئة البوق، وقالت فرقة:«الصور» جمع صورة كتمرة وتمر وجمرة وجمر والأول أشهر، وفي الأحاديث المتداولة أن إسرافيل عليه السلام هو صاحب «الصور» وأنه قد جثا على ركبته الواحدة وأقام الأخرى وأمال خده والتقم القرن ينتظر متى يؤذن له في النفخ، وهذه النفخة المذكورة في هذه الآية هي نفخة الفزع، وروى أبو هريرة أن الملك له في الصور ثلاث نفخات: نفخة الفزع وهو فزع حياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر، ونفخة الصعق، ونفخة القيام من القبور، وقالت فرقة إنما هي نفختان كأنهم جعلوا الفزع والصعق في نفخة واحدة، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: ٦٨] وقالوا: أخرى لا يقال إلا في الثانية.
قال القاضي أبو محمد: والقول الأول أصح، وأُخْرى [الزمر: ٦٨] يقال في الثالثة ومنه قول ربيعة بن مكدم: [الكامل]«ولقد شفعتهما بآخر ثالث» ومنه قوله تعالى: وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: ٢٠] .
وأما قول الشاعر:[مجزوء الكامل]
جعلت لها عودين من ... نشم وآخر من ثمامه
فيحتمل أن يريد به ثانيا وثالثا فلا حجة فيه، وقال تعالى: فَفَزِعَ وهو أمر لم يقع بعد إشعارا بصحة وقوعه وهذا معنى وضع الماضي موضع المستقبل، وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ استثناء فيمن قضى الله تعالى من ملائكته وأنبيائه وشهداء عبيده أن لا ينالهم فزع النفخ في الصور، قال أبو هريرة: هي في الشهداء، وذكر الرماني أنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، وقال مقاتل: هي في جبريل عليه السلام وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، وإذا كان الفزع الأكبر لا ينالهم فهم حريون أن لا ينالهم هذا.
قال القاضي أبو محمد: على أن هذا في وقت ترقب وذلك في وقت أمن إذ هو إطباق جهنم على أهلها، وقرأ جمهور القراء «وكل آتوه» على وزن فاعلوه، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم «أتوه» على صيغة الفعل الماضي وهي قراءة ابن مسعود وأهل الكوفة، وقرأ قتادة «أتاه» على الإفراد اتباعا للفظ «كل» وإلى هذه القراءة أشار الزجاج ولم يذكرها، و «الداخر» المتذلل الخاضع، قال ابن زيد وابن عباس:«الداخر» الصاغر، وقرأ الحسن «دخرين» بغير ألف، وتظاهرت الروايات بأن الاستثناء في هذه الآية إنما أريد به الشهداء لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وهم أهل للفزع لأنهم بشر لكن فضلوا بالأمن في ذلك اليوم.