ولما خرج موسى عليه السلام فارا بنفسه منفردا حافيا لا شيء معه، رأى حاله وعدم معرفته بالطريق وخلوه من الزاد وغيره فأسند أمره إلى الله تعالى وقالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ، وهذه الأقوال منه تقتضي أنه كان عارفا بالله تعالى عالما بالحكمة والعلم الذي آتاه الله تعالى، وتَوَجَّهَ، رد وجهه إليها، وتِلْقاءَ معناه ناحية، أي إلى الجهة التي يلقى فيها الشيء المذكور، وسَواءَ السَّبِيلِ معناه وسطه وقويمه، وفي هذا الوقت بعث الله تعالى الملك المسدد حسبما ذكرناه قبل وقال مجاهد: أراد ب سَواءَ السَّبِيلِ طريق مدين وقال الحسن: أراد سبيل الهدى.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أبدع ونظيره قول الصديق عن النبي صلى الله عليه وسلم «هذا الذي يهديني السبيل» الحديث، فمشى عليه السلام حتى ورد مَدْيَنَ أي بلغها، و «وروده الماء» معناه بلغه لا أنه دخل فيه، ولفظة «الورود» قد تكون بمعنى الدخول في المورود، وقد تكون بمعنى الإطلال عليه والبلوغ إليه وإن لم يدخل فيه فورود موسى هذا الماء كان بالوصول إليه، وهذه الوجوه في اللفظة تتأول في قوله تعالى وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: ٧١] ، ومَدْيَنَ لا ينصرف إذ هي بلدة معروفة، و «الأمة» الجمع الكثير، ويَسْقُونَ معناه ماشيتهم، ومِنْ دُونِهِمُ، معناه ناحية إلى الجهة التي جاء منها فوصل إلى «المرأتين» قبل وصوله إلى الأمة وهكذا هما مِنْ دُونِهِمُ بالإضافة إليه، وتَذُودانِ معناه تمنعان وتحبسان، ومنه قوله عليه السلام «فليذادن رجال عن حوضي» الحديث، وشاهد الشعر في ذلك كثير، وفي بعض المصاحف «امرأتين حابستين تذودان» ، واختلف في المذود، فقال عباس وغيره تَذُودانِ غنمهما عن الماء خوفا من السقاة الأقوياء، وقال قتادة تَذُودانِ الناس عن غنمهما، فلما رأى موسى عليه السلام انتزاح المرأتين قالَ ما خَطْبُكُما أي ما أمركما وشأنكما، وكان استعمال السؤال بالخطب إنما هو في مصاب أو مضطهد أو من يشفق عليه أو يأتي بمنكر من الأمر فكأنه بالجملة في شر فأخبرتاه بخبرهما، وأن أباهما شَيْخٌ كَبِيرٌ فالمعنى أنه لا يستطيع لضعفه أن يباشر أمر غنمه وأنهما لضعفهما وقلة طاقتهما لا يقدران على مزاحمة الأقوياء وأن عادتهما التأتي حتى يصدر الناس عن الماء ويخلى، وحينئذ تردان، وقالت فرقة كانت الآبار مكشوفة وكان زحم الناس يمنعهما، فلما أراد موسى أن يسقي لهما زحم الناس وغلبهم على الماء حتى سقى، فعن هذا الغلب الذي كان منه، وصفته إحداهما بالقوة، وقالت فرقة: بل كانت آبارهم على أفواهها حجارة كبار وكان ورود المرأتين تتبع ما في صهاريج الشرب من الفضلات التي تبقى للسقاة وأن موسى عليه السلام عمد إلى بئر كانت مغطاة والناس يسقون من غيرها وكان حجرها لا يرفعه إلا سبعة، قاله ابن زيد، وقال ابن جريج: عشرة، وقال ابن عباس: ثلاثون، وقال الزجاج: أربعون، فرفعه موسى وسقى للمرأتين، فعن رفع الصخرة وصفته بالقوة، وقيل إن بئرهم كانت واحدة وإنه رفع عنها الحجر بعد انفصال السقاة إذ كانت عادة المرأتين شرب الفضلات، وقرأ الجمهور «نسقي» بفتح النون، وقرأ طلحة «نسقي» بضمها، وقرأ أبو عمرو وابن عامر «حتى يصدر» بفتح الياء وضم الدال وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وقتادة، وقرأ الباقون «يصدر» بضم الياء وكسر الدال على حذف المفعول تقديره مواشيهم وحذف المفعول