قالت فرقة أراد ب الْغَيْبِ الآخرة، وب الشَّهادَةِ الدنيا، وقيل أراد ب الْغَيْبِ ما غاب عن المخلوقين وب الشَّهادَةِ ما شوهد من الأشياء فكأنه حصر بهذه الألفاظ جميع الأشياء، وقرأ جمهور الناس «خلقه» بفتح اللام على أنه فعل ماض، ومعنى أَحْسَنَ أتقن وأحكم فهو حسن من جهة ما هو لمقاصده التي أريد لها، ومن هذا المعنى ما قال ابن عباس وعكرمة: ليست است القرد بحسنة ولكنها متقنة محكمة، والجملة في خَلَقَهُ يحتمل أن تكون في موضع نصب صفة ل كُلَّ أو في موضع خفض صفة ل شَيْءٍ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «خلقه» بسكون اللام وذلك منصوب على المصدر، والضمير فيه إما عائد على الله تعالى وإما على المفعول، ويصح أن يكون بدلا من كُلَّ وذهب بعض الناس على هذه القراءة إلى أن أَحْسَنَ بمعنى ألهم، وأن هذه الآية بمعنى قوله تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: ٥٠] أي ألهم الرجل إلى المرأة، والجمل إلى الناقة، وهذا قول فيه بعد ورجحه الطبري، وقرأ جمهور الناس «وبدأ» ، وقرأ الزهري «وبدا خلق الإنسان» بألف دون همزة وبنصب القاف وذلك على البدل لا على التخفيف.
قال الفقيه الإمام القاضي: كأنه أبدل الياء من بدى ألفا، وبدى لغة الأنصار، وقال ابن رواحة:
[الرجز]
«بسم الإله وبه بدينا ... ولو عبدنا غيره شقينا»
والْإِنْسانِ آدم عدد أمره على بنيه إذ خلقه خلق لهم من حيث هو منسلهم، و «النسل» ما يكون عن الحيوان من الولد كأنه مأخوذ من نسل الشيء إذا خرج من موضعه، ومنه قوله تعالى: وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ [الأنبياء: ٩٦] ومنه نسل ريش الطائر إذا تساقط، و «السلالة» من سل يسل فكأن الماء يسل من الإنسان ومن ذلك قول الشاعر: [الطويل]
فجاءت به عضب الأديم غضنفرا ... سلالة فرج كان غير حصين
و «المهين» الضعيف، مهن الإنسان إذا ضعف وذل، وقوله وَنَفَخَ عبارة عن إفاضة الروح في جسد آدم، والضمير في رُوحِهِ لله تعالى، وهي إضافة ملك إلى مالك وخلق إلى خالق، ثم أظهر تعديد النعم عليهم في أن خصهم في قوله لَكُمُ بضمير السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ وهي لمن تقدم ذكره أيضا كما خص آدم بالتسوية ونفخ الروح وهو لجميع ذريته، وهذا كله إيجاز واقتضاب وترك لما يدل عليه المنطوق به.