فنزلت هذه السورة عند ذلك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيد وقال له:«لقد صدقك الله يا زيد ووفت أذنك» ، فخزي عند ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول، ومقته الناس، ولامه المؤمنون من قومه وقال بعضهم: امض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعترف بذنبك يستغفر لك، فلوى رأسه إنكارا لهذا الرأي، وقال لهم: لقد أشرتم عليّ بأن أعطي زكاة من مالي ففعلت، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد.
قال القاضي أبو محمد: فهذا هو قصص هذه السورة موجزا، و «تعال» نداء يقتضي لفظه أنه دعاء الأعلى للأسفل، ثم استعمل لكل داع لما فيه من حسن الأدب. وقرأ نافع والمفضل عن عاصم «لووا» بتخفيف الواو، وهي قراءة الحسن بخلاف ومجاهد، وأهل المدينة، وقرأ الباقون وأبو جعفر والأعمش:
«لوّوا» بشد الواو على تضعيف المبالغة، وهي قراءة طلحة وعيسى وأبي رجاء وزر والأعرج، وقرأ بعض القراء هنا:«يصدون» بكسر الصاد، والجمهور بضمها، وقوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ الآية، روي أنه لما نزلت: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة: ٨٠] ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لأزيدن على السبعين» ، وفي حديث آخر:«لو علمت أني إن زدت على السبعين غفر لهم لزدت» ، فكأنه عليه السلام رجا أن هذا الحد ليس على جهة الحتم جملة، بل على أن ما يجاوزه يخرج عن حكمه، فلما فعل ابن أبي وأصحابه ما فعلوا شدد الله تعالى عليهم في هذه السورة، وأعلم أنه لن يغفر لهم دون حد في الاستغفار، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لو أعلم أني إن زدت غفر لهم» نص على رفض دليل الخطاب.
وقرأ جمهور الناس:«أستغفرت» بالقطع وألف الاستفهام، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع:«آستغفرت» بمدّ على الهمزة وهي ألف التسوية، وقرأ أيضا: بوصل الألف دون همز على الخبر، وفي هذا كله ضعف لأنه في الأولى: أثبت همزة الوصل، وقد أغنت عنها همزة الاستفهام، وفي الثانية: حذف همزة الاستفهام وهو يريدها وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر.
وقوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ أشار عبد الله بن أبي ومن قال بقوله، قاله علي بن سليمان ثم سفه أحلامهم في أن ظنوا إنفاقهم هو سبب رزق المهاجرين ونسوا أن جريان الرزق بيد الله تعالى، إذا انسد باب انفتح غيره، وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي:«حتى ينفضوا» بضم الياء وتخفيف الفاء، يقال:«أنفض» الرجل إذا فني طعامه فنفض وعاءه والخزائن موضع الإعداد، ونجد القرآن قد نطق في غير موضع بالخزائن ونجد في الحديث:«خزنة الربح» وفي القرآن: مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النور: ٤٣] ، فجائز أن تكون هذه عبارة عن القدرة وأن هذه الأشياء إيجادها عند ظهورها جائز. وهو الأظهر. إن منها أشياء مخلوقة موجودة يصرفها الله تعالى حيث شاء، وظواهر ألفاظ الشريعة تعطي هذا. ومعناه في التفسير قال عتت على الخزان، وفي الحديث:«ما انفتح من خزائن الربح على قوم عاد إلا قدر حلقة الخاتم، ولو انفتح مقدار منخر الثور لهلكت الدنيا» ، وقال رجل لحاتم الأصم: من أين تأكل، فقرأ: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وقال الجنيد: خَزائِنُ السماء: الغيوب، وخَزائِنُ الأرض: القلوب: وقرأ الجمهور: