«الكبد» ، فقال جمهور الناس:«الإنسان» اسم الجنس كله، و «الكبد» المشقة والمكابدة، أي يكابد أمر الدنيا والآخرة، ومن ذلك قول لبيد:[المنسرح]
يا عين هلا بكيت أربد إذ ... قمنا وقام الخصوم في كبد
وقول ذي الإصبع:[البسيط]
لي ابن عم لو ان الناس في كبد ... لظل محتجرا بالنبل يرميني
وبالمشقة في أنواع أحوال الإنسان فسره الجمهور، وقال الحسن: لم يخلق الله خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم، وقال ابن عباس وعبد الله بن شداد وأبو صالح والضحاك ومجاهد فِي كَبَدٍ معناه: منتصف القامة واقفا، وقال ابن زيد:«الإنسان» : آدم عليه السلام، وفِي كَبَدٍ معناه: في السماء سماها كبدا، وهذان قولان قد ضعفا والقول الأول هو الصحيح، وروي أن سبب الآية وما بعدها هو أبو الأشدين رجل من قريش شديد القوة، اسمه أسيد بن كلدة الجمحي، كان يحسب أن أحدا لا يقدر عليه، ويقال بل نزلت في عمرو بن ود، ذكره النقاش، وهو الذي اقتحم الخندق بالمدينة وقتله علي بن أبي طالب خلف الخندق، وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل، أذنب فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بالكفارة فقال: لقد أَهْلَكْتُ مالًا في الكفارات والنفقات مذ تبعت محمدا، وكان كل واحد منهم قد ادعى أنه أنفق مالا كثيرا على إفساد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أو في الكفارات على ما تقدم، فوقف القرآن على جهة التوبيخ للمذكور، وعلى جهة التوبيخ لاسم الجنس كله. ويَقْدِرَ نصب ب لَنْ وأَنْ مخففة من الثقيلة، وكان قول هذا الكافر: أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً كذبا منه، فلذلك قال: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ أي أنه رئي وأحصي فعله فما باله يكذب؟ ومن قال إن المراد اسم الجنس غير مفرد، جعل قوله تعالى:
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ بمعنى أيظن الإنسان أن ليس عليه حفظة يرون أعماله ويحصونها إلى يوم الجزاء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيما أفناه وجسمه فيما أبلاه وماله من أين كسبه وأين أنفقه» ، واختلف القراء في قوله «لبدا» ، فقرأ جمهور القراء بضم اللام وفتح الباء، وقرأ مجاهد «لبدا» بضمهما وذلك جمع لبدة أو جمع لبود بفتح اللام، وقرأ أبو جعفر يزيد «لبّدا» بضم اللام وفتح الباء وشدها فيكون مفردا نحو «زمّل» ويكون جمع لا بد، وقد روي عن أبي جعفر «لبدا» بسكون الباء، والمعنى في هذه القراءات كلها مالا كثيرا متلبدا بعضه فوق بعض من التكاثف والكثرة، وقرأ الأعمش:«لم يره» بسكون الراء لتوالي الحركات، ثم عدد تعالى على الإنسان نعمه التي بها تقوم الحجة، وهي جوارحه. وقرن تعالى «الشفتين» باللسان لأن نعمة العبارة والكلام، لا يصح إلا بالجميع.. وفي الحديث: يقول الله تعالى: «ابن آدم إن نازعك لسانك إلى ما لا يحل، فقد أعنتك عليه بشفتين فأطبقهما عليه» . واختلف الناس في النَّجْدَيْنِ فقال ابن مسعود وابن عباس والناس: طريقا الخير والشر، أي عرضنا عليه طريقهما، وليست الهداية هنا بمعنى الإرشاد. وقال ابن عباس أيضا والضحاك:«النجدان» :
ثديا الأم وهذا مثال، والنجد: الطريق المرتفع، وأنشد الأصمعي:[الطويل]
كميش الإزار خارج نصف ساقه ... صبور على الأرزاء طلاع أنجد