وهذا المعنى الذي ذكرناه في هذه الآية يجري مع معنى قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: ١٨٥] وقوله تعالى: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: ٧٨] وقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: ١٦] .
واختلف الناس في جواز تكليف ما لا يطاق في الأحكام التي هي في الدنيا بعد اتفاقهم على أنه ليس واقعا الآن في الشرع، وأن هذه الآية آذنت بعدمه، فقال أبو الحسن الأشعري وجماعة من المتكلمين تكليف ما لا يطاق جائز عقلا ولا يحرم ذلك شيئا من عقائد الشرع، ويكون ذلك أمارة على تعذيب المكلف وقطعا به.
قال القاضي أبو محمد: وينظر إلى هذا تكليف المصور أن يعقد شعيرة حسب الحديث.
واختلف القائلون بجوازه هل وقع في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فقالت فرقة وقع في نازلة أبي لهب لأنه حكم عليه بتب اليدين وصلي النار، وذلك مؤذن بأنه لا يؤمن، وتكليف الشرع له الإيمان راتب، فكأنه كلف أن يؤمن وأن يكون في إيمانه أنه لا يؤمن لأنه إذا آمن فلا محالة أنه يؤمن بسورة تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: ١] ، وقالت فرقة لم يقع قط، وقوله تعالى: سَيَصْلى ناراً [المسد: ٣] إنما معناه إن وافى على كفره.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وما لا يطاق ينقسم أقساما: فمنه المحال عقلا كالجمع بين الضدين، ومنه المحال عادة، كرفع الإنسان جبلا، ومنه ما لا يطاق من حيث هو مهلك كالاحتراق بالنار ونحوه، ومنه ما لا يطاق للاشتغال بغيره، وهذا إنما يقال فيه ما لا يطاق على تجوز كثير، ويُكَلِّفُ يتعدى إلى مفعولين أحدهما محذوف تقديره «عبادة» أو شيئا، وقرأ ابن أبي عبلة «إلا وسعها» بفتح الواو وكسر السين، وهذا فيه تجوز لأنه مقلوب، وكان وجه اللفظ إلا وسعته، كما قال وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [البقرة: ٢٥٥] وكما قال وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [طه: ٩٨] ولكن يجيء هذا من باب أدخلت القلنسوة في رأسي، وفمي في الحجر.
وقوله تعالى: لَها ما كَسَبَتْ يريد من الحسنات، وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ يريد من السيئات، قاله السدي وجماعة من المفسرين، لا خلاف في ذلك، والخواطر ونحوها ليس من كسب الإنسان. وجاءت العبارة في الحسنات ب لَها من حيث هي مما يفرح الإنسان بكسبه ويسر بها فتضاف إلى ملكه، وجاءت في السيئات ب عَلَيْها، من حيث هي أوزار وأثقال ومتحملات صعبة. وهذا كما تقول لي مال وعلي دين، وكما قال المتصدق باللقطة: اللهم عن فلان فإن أبى فلي وعليّ، وكرر فعل الكسب فخالف بين التصريف حسنا لنمط الكلام. كما قال فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطلاق: ١٧] هذا وجه، والذي يظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما يكسب دون تكلف، إذ كاسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى ويتخطاه إليها، فيحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازا لهذا المعنى، وقال المهدوي وغيره: وقيل معنى الآية لا يؤاخذ أحد بذنب أحد.
قال القاضي أبو محمد: وهذا صحيح في نفسه، لكن من غير هذه الآية.