قال القاضي أبو محمد: وقيل غير هذا مما هو كله قريب بعضه من بعض، وقوله تعالى: جَمِيعاً حال من الضمير في قوله، اعْتَصِمُوا، فالمعنى: كونوا في اعتصامكم مجتمعين. وَلا تَفَرَّقُوا يريد التفرق الذي لا يتأتى معه الائتلاف على الجهاد وحماية الدين وكلمة الله تعالى، وهذا هو الافتراق بالفتن والافتراق في العقائد، وأما الافتراق في مسائل الفروع والفقه فليس يدخل في هذه الآية، بل ذلك، هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلاف أمتي رحمة، وقد اختلف الصحابة في الفروع أشد اختلاف، وهم يد واحدة على كل كافر، وأما الفتنة على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فمن التفرق المنهي عنه، أما أن التأويل هو الذي أدخل في ذلك أكثر من دخله من الصحابة رضي الله عن جميعهم.
قوله تعالى:
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ....
هذه الآية تدل على أن الخطاب بهذه الآية إنما هو للأوس والخزرج، وذلك أن العرب وإن كان هذا اللفظ يصلح في جميعها فإنها لم تكن في وقت نزول هذه الآية اجتمعت على الإسلام ولا تألفت قلوبها، وإنما كانت في قصة شاس بن قيس في صدر الهجرة، وحينئذ نزلت هذه الآية، فهي في الأوس والخزرج، كانت بينهم عداوة وحروب، منها يوم بعاث وغيره، وكانت تلك الحروب والعداوة قد دامت بين الحيين مائة وعشرين سنة، حتى رفعها الله بالإسلام، فجاء النفر الستة من الأنصار إلى مكة حجاجا، فعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه عليهم، وتلا عليهم القرآن، كما كان يصنع مع قبائل العرب، فآمنوا به وأراد الخروج معهم، فقالوا يا رسول الله: إن قدمت بلادنا على ما بيننا من العداوة والحرب، خفنا أن لا يتم ما نريده منك، ولكن نمضي نحن ونشيع أمرك، ونداخل الناس، وموعدنا وإياك العام القابل، فمضوا وفعلوا، وجاءت الأنصار في العام القابل، فكانت العقبة الثانية وكانوا اثني عشر رجلا، فيهم خمسة من الستة الأولين، ثم جاؤوا من العام الثالث، فكانت بيعة العقبة الكبرى، حضرها سبعون وفيهم اثنا عشر نقيبا، ووصف هذه القصة مستوعب في سيرة ابن هشام، ويسر الله تعالى الأنصار للإسلام بوجهين، أحدهما أن بني إسرائيل كانوا مجاورين لهم وكانوا يقولون لمن يتوعدونه من العرب، يبعث لنا نبي الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما رأى النفر من الأنصار محمدا صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم لبعض: هذا والله النبي الذي تذكره بنو إسرائيل فلا تسبقن إليه، والوجه الآخر، الحرب التي كانت ضربتهم وأفنت سراتهم، فرجوا أن يجمع الله به كلمتهم كالذي كان، فعدد الله تعالى عليهم نعمته في تأليفهم بعد العداوة، وذكرهم بها، وقوله تعالى: فَأَصْبَحْتُمْ عبارة عن الاستمرار وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت ما، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبدأ النهار، وفيها مبدأ الأعمال، فالحال التي يحسها المرء من نفسه فيها هي حاله التي يستمر عليها يومه في الأغلب، ومنه قول الربيع بن ضبع:[المنسرح]
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا