قال القاضي أبو محمد: وروى هذا السبب أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم وهو كان المتولي لقتل الكلاب، وحكاه أيضا عكرمة ومحمد بن كعب القرظي موقوفا عليهما وظاهر الآية أن سائلا سأل عما أحل للناس من المطاعم لأن قوله تعالى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ليس الجواب على ما يحل لنا من اتخاذ الكلاب اللهم إلا أن يكون هذا من إجابة السائل بأكثر مما سأل عنه وهذا موجود كثيرا من النبي صلى الله عليه وسلم كجوابه في لباس المحرم وغير ذلك وهو صلى الله عليه وسلم مبين الشرع فإنما يجاوب مادّا أطناب التعليم لأمته، والطَّيِّباتُ الحلال هذا هو المعنى عند مالك وغيره ولا يراغى مستلذا كان أم لا، وقال الشافعي: الطَّيِّباتُ الحلال المستلذ وكل مستقذر كالوزغ والخنافس وغيرها فهي من الخبائث حرام.
وقوله تعالى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ تقديره وصيد ما علمتم أو فاتخاذ ما علمتم وأعلى مراتب التعليم أن يشلى الحيوان فينشلي ويدعى فيجيب ويزجر بعد ظفره بالصيد فينزجر وأن يكون لا يأكل من صيده فإذا كان كلب بهذه الصفات ولم يكن أسود بهيما فأجمعت الأمة على صحة الصيد به بشرط أن يكون تعليم مسلم ويصيد به مسلم، هنا انعقد الإجماع فإذا انخرم شيء مما ذكرنا دخل الخلاف، فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه وكالبازي والصقر ونحوهما من الطير فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد تعليم فهو جارح أي كاسب يقال: جرح فلان واجترح إذا كسب ومنه قوله تعالى: وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام: ٦٠] أي كسبتم من حسنة وسيئة وكان ابن عمر يقول إنما يصاد بالكلاب فأما ما صيد به من البزاة وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فذكه فهو حلال لك وإلا فلا تطعمه هكذا حكى ابن المنذر قال: وسئل أبو جعفر عن البازي والصقر أيحل صيده قال: لا إلا أن تدرك ذكاته قال واستثنى قوم البزاة فجوزوا صيدها لحديث عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال إذا أمسك عليك فكل، وقال الضحاك والسدي: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ هي الكلاب خاصة فإن كان الكلب أسود بهيما فكره صيده الحسن بن أبي الحسن وقتادة وإبراهيم النخعي. وقال أحمد بن حنبل ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما وبه قال ابن راهويه، فأما عوام أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم.
وأما أكل الكلب من الصيد فقال ابن عباس وأبو هريرة والشعبي وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وقتادة وعكرمة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والنعمان وأصحابه، لا يؤكل ما بقي لأنه إنما أمسك على نفسه ولم يمسك على ربه ويعضد هذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم في الكلب المعلم وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه، وتأول هؤلاء قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ أي الإمساك التام ومتى أكل فلم يمسك على الصائد، وقال سعد بن أبي وقاص وعبد الله ابن عمر وأبو هريرة أيضا وسلمان الفارسي رضي الله عنهم: إذا أكل الجارح أكل ما بقي وإن لم تبق إلا بضعة. وهذا قول مالك وجميع أصحابه فيما علمت وتأولوا قوله تعالى: مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة: ٤] على عموم الإمساك فمتى حصل إمساك ولو في بضعة حل أكلها وروي عن النخعي وأصحاب الرأي والثوري وحماد بن أبي سليمان أنهم رخصوا فيما أكل البازي منه خاصة في البازي.
قال القاضي أبو محمد: كأنه لا يمكن فيه أكثر من ذلك لأن حد تعليمه أن يدعى فيجيب، وأن يشلى