هم به مختصون معصومون لا ينطقون عن هوى. قوله تعالى: وَإِذْ في هذه الآية حيث ما تكررت فهي عطف على الأولى التي عملت فيها نعمتي، وتَخْلُقُ معناه: تقدر وتهيىء تقديره مستويا، ومنه قول الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثم لا يفري
أي يهيىء ويقدر ليعمل ويكمل ثم لا يفعل. ومنه قول الآخر:
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليله
وكان عيسى عليه السلام يصور من الطين أمثال الخفافيش ثم ينفخ فيها أمام الناس فتحيا وتطير بإذن الله. وقد تقدم هذا القصص في آل عمران. وقرأ جمهور الناس «كهيئة» بالهمز، وهو مصدر من قولهم هاء الشيء يهاء إذا ثبت واستقر على أمر حسن، قال اللحياني: ويقال «يهيء» وقرأ الزهري «كهيّة» بتشديد الياء من غير همز وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «كهيئة الطائر» . والإذن في هذه الآية كيف تكرر معناه التمكين مع العلم بما يصنع وما يقصد من دعاء الناس إلى الإيمان. وقوله تعالى: فَتَنْفُخُ فِيها هو النفخ المعروف من البشر وإن جعل الله الأمر هكذا ليظهر تلبس عيسى بالمعجزة وصدورها عنه. وهذا كطرح موسى العصا. وكإيراد محمد عليه السلام القرآن. وهذا أحد شروط المعجزات. وقوله فِيها بضمير مؤنث مع مجيء ذلك في آل عمران فَأَنْفُخُ فِيهِ [آل عمران: ٤٩] بضمير مذكر موضع قد اضطرب المفسرون فيه.
قال مكي: هو في آل عمران عائد على الطائر وفي المائدة عائد على الهيئة، قال ويصح عكس هذا، قال غيره الضمير المذكر عائد على الطين.
قال القاضي أبو محمد: ولا يصح عود هذا الضمير لا على الطير ولا على الطين ولا على الهيئة لأن الطين والطائر الذي يجيء على الطين على هيئة لا نفخ فيه البتة، وكذلك لا نفخ في هيئته الخاصة بجسده وهي المذكورة في الآية، وكذلك الطِّينِ المذكور في الآية إنما هو الطين العام ولا نفخ في ذلك. وإنما النفخ في الصور المخصوصة منه التي رتبتها يد عيسى عليه السلام، فالوجه أن يقال في عود الضمير المؤنث إنه عائد على ما تقتضيه الآية ضرورة، وذلك أن قوله وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ يقتضي صورا أو أجساما أو أشكالا، وكذلك الضمير المذكر يعود على المخلوق الذي يقتضيه تَخْلُقُ، ولك أن تعيده على ما تدل عليه الكاف في معنى المثل لأن المعنى وإذ تخلق من الطين مثل هيئة، ولك أن تعيد الضمير على الكاف نفسه فيمن يجوّز أن يكون اسما في غير الشعر، وتكون الكاف في موضع نصب صفة للمصدر المراد تقديره وإذ تخلق خلقا من الطين كهيئة الطير وقرأ عبد الله بن عباس كهيئة الطير فتنفخها فيكون وقرأ الجمهور «فتكون» بالتاء من فوق وقرأ عيسى بن عمر فيها «فيكون» بالياء من تحت، وقرأ نافع وحده «فتكون طائرا» ، وقرأ الباقون «طيرا» بغير ألف والقراءتان مستفيضتان في الناس.
فالطير جمع طائر كتاجر وتجر وصاحب وصحب وراكب وركب. والطائر اسم مفرد والمعنى على قراءة نافع فتكون كل قطعة من تلك المخلوقات طائرا قال أبو علي: ولو قال قائل إن الطائر قد يكون جمعا كالجامل والباقر فيكون على هذا معنى القراءتين واحدا لكان قياسا، ويقوي ذلك ما حكاه أبو الحسن