يجوز غير ذلك، وتأمل لم خصت السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ب خَلَقَ والظُّلُماتِ وَالنُّورَ ب جَعَلَ؟ وقال الطبري جَعَلَ هذه هي التي تتصرف في طرق الكلام كما تقول جعلت كذا فكأنه قال وجعل إظلامها وإنارتها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا غير جيد، لأن جَعَلَ إذا كانت على هذا النحو فلا بد أن يرتبط معها فعل آخر كما يرتبط في أفعال المقاربة كقولك كاد زيد يموت، «جعل» زيد يجيء ويذهب، وأما إذا لم تربط معها فعل فلا يصح أن تكون تلك التي ذكر الطبري، وقال السدي وقتادة والجمهور من المفسرين:
الظُّلُماتِ الليل والنُّورَ النهار، وقالت فرقة: الظُّلُماتِ الكفر والنُّورَ الإيمان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا غير جيد لأنه إخراج لفظ بين في اللغة عن ظاهره الحقيقي إلى باطن لغير ضرورة، وهذا هو طريق اللغز الذي برىء القرآن منه، والنُّورَ أيضا هنا للجنس فإفراده بمثابة جمعه.
وقوله تعالى: ثُمَّ دالة على قبح فعل الَّذِينَ كَفَرُوا لأن المعنى أن خلقه «السموات والأرض» وغيرهما قد تقرر، وآياته قد سطعت، وأنعامه بذلك قد تبين ثم بعد هذا كله عدلوا بربهم، فهذا كما تقول: يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني، أي بعد مهلة من وقوع هذا كله، ولو وقع العطف في هذا ونحوه بالواو لم يلزم التوبيخ كلزومه ب ثُمَّ، الَّذِينَ كَفَرُوا في هذا الموضع هم كل من عبد شيئا سوى الله قال قتادة: هم أهل الشرك صراحية، ومن خصص من المفسرين في ذلك بعضا دون بعض فلم يصب إلا أن السابق من حال النبي صلى الله عليه وسلم أن الإشارة إلى عبدة الأوثان من العرب لمجاورتهم له، ولفظ الآية أيضا يشير إلى المانوية ويقال الماننية العابدين للنور القائلين إن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلام، وقول ابن أبزى إن المراد أهل الكتاب بعيد، ويَعْدِلُونَ معناه يسوون ويمثلون، وعدل الشيء قرينه ومثيله، والمنوية مجوس، وورد في مصنف أبي داود حديث وهو القدرية مجوس هذه الأمة ومعناه الإغلاظ عليهم والذم لهم في تشبيههم بالمجوس وموضع الشبه هو أن المجوس تقول الأفعال خيرها خلق النور وشرها خلق الظلمة فجعلوا خالقا غير الله، والقدرية تقول الإنسان يخلق أفعاله فجعلوا خالقا غير الله تعالى عن قولهم، وذهب أبو المعالي إلى التشبيه بالمجوس إنما هو قول القدرية: إن الخير من الله وإن الشر منه ولا يريده. وإنما قلنا في الحديث إنه تغليظ لأنه قد صرح أنهم من الأمة ولو جعلهم مجوسا حقيقة لم يضفهم إلى الأمة، وهذا كله ان لو صح الحديث والله الموفق.
وقوله تعالى:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ الآية قال مجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم.. المعنى خلق آدم من طين والبشر من آدم فلذلك قال: خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وحكى المهدوي عن فرقة أنها قالت بل المعنى أن النطفة التي يخلق منها الإنسان أصلها من طين ثم يقلبها الله نطفة، وذكره مكي والزهراوي، والقول الأول أليق بالشريعة لأن القول الثاني إنما يترتب على قول من يقول بأن الطين يرجع بعد التولد والاستحالات الكثيرة نطفة، وذلك مردود عند الأصوليين، واختلف المفسرون في هذين الأجلين، فقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة والضحاك، أَجَلًا أجل الإنسان من لدن ولادته إلى موته، والأجل المسمى عنده من وقت موته