ويتضمن هذا الإخبار عن الله تعالى بأنه كتب الرحمة تأنيس الكفار ونفي يأسهم من رحمة الله إذا تابوا، وأن باب توبتهم مفتوح، قال الزجاج: الرَّحْمَةَ هنا إمهال الكفار وتعميرهم ليتوبوا، وحكى المهدوي: أن جماعة من النحويين قالت: إن لَيَجْمَعَنَّكُمْ هو تفسير الرَّحْمَةَ تقديره: أن يجمعكم فيكون لَيَجْمَعَنَّكُمْ في موضع نصب على البدل من الرَّحْمَةَ، وهو مثل قوله: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ [يوسف: ٣٥] المعنى: أن يسجنوه.
قال القاضي أبو محمد: يلزم على هذا القول أن تدخل النون الثقيلة في الإيجاب، وهو مردود، وإنما تدخل في الأمر والنهي وباختصاص الواجب في القسم، وقالت فرقة وهو الأظهر: إن اللام لام قسم والكلام مستأنف، ويتخرج ذلك في لَيَسْجُنُنَّهُ، وقالت فرقة إِلى بمعنى في وقيل على بابها غاية وهو الأرجح، ولا رَيْبَ فِيهِ لا شك فيه، أي هو في نفسه وذاته لا ريب فيه، وقوله تعالى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ الآية قيل إن الَّذِينَ منادى.
قال القاضي أبو محمد: وهو فاسد لأن حرف النداء لا يسقط مع المبهمات، وقيل: هو نعت المكذبين الذين تقدم ذكرهم، وقيل: هو بدل من الضمير في لَيَجْمَعَنَّكُمْ، قال المبرد: ذلك لا يجوز كما لا يجوز مررت بك زيد.
قال القاضي أبو محمد: وقوله في الآية لَيَجْمَعَنَّكُمْ مخالف لهذا المثال لأن الفائدة في البدل مترقبة من الثاني وإذا قلت مررت بك زيد فلا فائدة في الثاني، وقوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ يصلح لمخاطبة الناس كافة فيفيدنا إبدال الَّذِينَ من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب هنا، وخصوا على جهة الوعيد، ويتضح فيها الوعيد إذا جعلنا اللام للقسم وهو القول الصحيح، ويجيء هذا بدل البعض من الكل، وقال الزجاج الَّذِينَ رفع بالابتداء وخبره فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، وهذا قول حسن، والفاء في قوله: فَهُمْ جواب على القول بأن الَّذِينَ رفع بالابتداء لأن معنى الشرط حاصل تقديره، من خسر نفسه فهو لا يؤمن، وعلى القول بأن الَّذِينَ بدل من الضمير هي عاطفة جملة على جملة، وخَسِرُوا معناه غبنوا أنفسهم بأن وجب عليها عذاب الله وسخطه، ومنه قول الشاعر [الأعشى] : [السريع]
لا يأخذ الرّشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر
وقوله تعالى: وَلَهُ ما سَكَنَ الآية وَلَهُ عطف على قوله لِلَّهِ واللام للملك، وما بمعنى الذي، وسَكَنَ هي من السكنى ونحوه أي ما ثبت وتقرر، قاله السدي وغيره وقالت فرقة: هو من السكون، وقال بعضهم: لأن الساكن من الأشياء أكثر من المتحرك إلى غير هذا من القول الذي هو تخليط، والمقصد في الآية عموم كل شيء وذلك لا يترتب إلا أن يكون سَكَنَ بمعنى استقر وثبت وإلا فالمتحرك من الأشياء المخلوقات أكثر من السواكن، ألا ترى إلى الفلك والشمس والقمر والنجوم السابحة والملائكة وأنواع الحيوان والليل والنهار حاصران للزمان وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ هاتان صفتان تليقان بنمط الآية من قبل أن ما ذكر قبل من الأقوال الردية عن الكفرة العادلين هو سميع لهم عليم بمواقعها مجاز عليها، ففي الضمير وعيد.