للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا المعنى لا مدخل له في هذه الآية إلا أن تتأول اللفظة بمعنى ألقته الشياطين في هوة، وقد ذهب إليه أبو علي وقال: هو بمعنى أهوى كما أن استزل بمعنى أزل.

قال القاضي أبو محمد: والتحرير: أن العرب تقول: هوى وأهواه غيره واستهواه بمعنى طلب منه أن يهوي هو أو طلب منه أن يهوي شيئا، وبيستعمل الهوى أيضا في ركوب الرأس في النزوع إلى الشيء ومنه قوله تعالى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم: ٣٧] ، ومنه قول شاعر الجن: [السريع]

تهوي إلى مكّة تبغي الهدى ... ما مؤمن الجنّ كأنجاسها

وهذا المعنى هو الذي يليق بالآية، وقرأ الجمهور من الناس «استهوته الشياطين» وقرأ الحسن «استهوته الشياطون» . وقال بعض الناس: هو لحن، وليس كذلك بل هو شاذ قبيح وإنما هو محمول على قولهم، سنون وأرضون إلا أن هذه في جمع مسلم وشياطون في جمع مكسر فهذا موضع الشذوذ، وقرأ حمزة «استهواه الشياطين» وأمال استهواه، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والأعمش وطلحة «استهويه الشيطان» بالياء وإفراد الشيطان، وذكر الكسائي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود، وقوله: فِي الْأَرْضِ يحكم بأن اسْتَهْوَتْهُ إنما هو بمعنى استدعت هويه الذي هو الجد في النزوع وحَيْرانَ في موضع الحال، ومؤنثه حيرى فهو لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، ومعناه ضالا متحيرا وهو حال من الضمير في اسْتَهْوَتْهُ والعامل فيه اسْتَهْوَتْهُ، ويجوز أن يكون من الذي والعامل فيه المقدر بعد الكاف، وقوله اسْتَهْوَتْهُ يقتضي أنه كان على طريق فاستدعته.

قال القاضي أبو محمد: فسياق هذا المثل كأنه قال أيصلح أن يكون بعد الهدى نعبد الأصنام فيكون ذلك منا ارتدادا على العقب فيكون كرجل على طريق واضح فاستهوته عنه الشياطين فخرج عنه إلى دعوتهم فبقي حائرا وقوله: لَهُ أَصْحابٌ يحتمل أن يريد له أصحاب على الطريق الذي خرج منه فيشبه بالأصحاب على هذا المؤمنون الذين يدعون من ارتد إلى الرجوع إلى الهدى، وهذا تأويل مجاهد وابن عباس ويحتمل أن يريد له أصحاب أي من الشياطين الدعاة أولا يدعونه إلى الهدى بزعمهم وإنما يوهمونه فيشبه بالأصحاب على هذا الكفرة الذين يثبتون من ارتد عن الإسلام على ارتداده، وروي هذا التأويل عن ابن عباس أيضا، وائْتِنا من الإتيان بمعنى المجيء، وفي مصحف عبد الله «إلى الهدى بينا» وهذه تؤيد تأويل من تأول الهدى حقيقة إخبار من الله، وحكى مكي وغيره أن المراد ب «الذي» في هذه الآية عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وب «الأصحاب» أبوه وأمه.

قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لأن في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها لما سمعت قول قائل: إن قوله تعالى: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما [الأحقاف: ١٧] نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قالت: كذبوا والله ما نزل فينا من القرآن شيء إلا براءتي.

قال القاضي أبو محمد: حدثني أبي رضي الله عنه قال: سمعت الفقيه الإمام أبا عبد الله المعروف بالنحوي المجاور بمكة يقول: من نازع أحدا من الملحدة فإنما ينبغي أن يرد عليه وينازعه بالقرآن والحديث فيكون كمن يدعو إلى الهدى بقوله: ائْتِنا، ومن ينازعهم بالجدل ويحلق عليهم به فكأنه بعد

<<  <  ج: ص:  >  >>