وكذلك استعمل فيما شنع وقبح في النفوس. والقبح والحسن في المعاني إنما يتلقى من جهة الشرع، والفاحش كذلك، فقوله هنا الْفَواحِشَ إنما هي إشارة إلى ما نص الشرع على تحريمه في مواضع أخر، فكل ما حرمه الشرع فهو فاحش وإن كان العقل لا ينكره كلباس الحرير والذهب للرجال ونحوه، وقوله: ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ يجمع النوع كله لأنه تقسيم لا يخرج عنه شيء، وهو لفظ عام في جميع الفواحش وذهب مجاهد إلى تخصيص ذلك بأن قال ما ظَهَرَ الطواف عريانا، والبواطن الزنى، وقيل غير هذا مما يأتي على طريق المثال، وما بدل من الفواحش وهو بدل بعض من كل، ومجموع القسمين يأتي بدل الشيء من الشيء وهو هو، وَالْإِثْمَ أيضا: لفظه عام لجميع الأفعال والأقوال التي يتعلق بمرتكبها إثم، هذا قول الجمهور، وقال بعض الناس: هي الخمر واحتج على ذلك بقول الشاعر: [الوافر]
شربت الإثم حتى طار عقلي
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول مردود لأن هذه السورة مكية ولم تعن الشريعة لتحريم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد لأن جماعة من الصحابة اصطحبوها يوم أحد وماتوا شهداء، وهي في أجوافهم، وأيضا فبيت الشعر يقال إنه مصنوع مختلق، وإن صح فهو على حذف مضاف، وكأن ظاهر القرآن على هذا القول أن تحريم الخمر من قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ [البقرة: ٢١٩] وهو في هذه الآية قد حرم، فيأتي من هذا أن الخمر إثم والإثم محرم فالخمر محرمة.
قال القاضي أبو محمد: ولكن لا يصح هذا لأن قوله فِيهِما إِثْمٌ لفظ محتمل أن يراد به أنه يلحق الخمر من فساد العقل والافتراء وقتل النفس وغير ذلك آثام فكأنه قال في الخمر هذه الآثام أي هي بسببها ومعها وهذه الأشياء محرمة لا محالة، وخرجت الخمر من التحريم على هذا ولم يترتب القياس الذي ذهب إليه قائل ما ذكرناه، ويعضد هذا أنّا وجدنا الصحابة يشربون الخمر بعد نزول قوله قُلْ فِيهِما إِثْمٌ وفي بعض الأحاديث فتركها قوم للإثم الذي فيها وشربها قوم للمنافع، وإنما حرمت الخمر بظواهر القرآن ونصوص الأحاديث وإجماع الأمة.
وَالْبَغْيَ: التعدي وتجاوز الحد، كان الإنسان مبتديا بذلك أو منتصرا فإذا جاوز الحد في الانتصار فهو باغ، وقوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ زيادة بيان وليس يتصور بغي بحق لأن ما كان بحق فلا يسمى بغيا، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً المراد بها الأصنام والأوثان وكل ما عبد من دون الله. و «السلطان» البرهان والحجة، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من أنه حرم البحيرة والسائبة ونحوه.
وقوله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ الآية، يتضمن الوعيد والتهديد. والمعنى ولكل أمة أي فرقة وجماعة، وهي لفظة تستعمل في الكثير من الناس، أجل مؤقت لمجيء العذاب إذا كفروا وخالفوا أمر ربهم، فأنتم أيتها الأمة كذلك قاله الطبري وغيره، وقرأ الحسن «فإذا جاء آجالهم» بالجمع. وهي قراءة ابن سيرين، قال أبو الفتح هذا هو الأظهر لأن لكل إنسان أجلا فأما الإفراد فلأنه جنس وإضافته إلى الجماعة حسنت الإفراد، ومثله قول الشاعر:[الرجز]