وقال ابنه عبد الله: قال لي أبي: خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع، فإن شئت أن تسألني عن الكلام حتى أخبرك عن الإسناد، وإن شئت بالإسناد حتى أخبرك عن الكلام. وكان أحمد بن سعيد الرازي يقول: ما رأيت أسود الرأس، أحفظ لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أعلم بفقهه من أحمد بن حنبل. وكان الشافعي وهو أحد شيوخ أبي عبد الله يقول: خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلًا أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل!؟. قال المزني: قال لي الشافعي: رأيت ببغداد شابا إذا قال "حدثنا" قال الناس كلهم: صدق! قلت: من هو؟ قال: أحمد بن حنبل. وكان وكيع بن الجراح وحفص بن غياث يقولان: ما قدم الكوفة مثل ذلك الفتى! يعنيان أحمد بن حنبل. وهكذا كان يحيى بن سعيد القطان يقول. وكان العجلي يقول عنه: ثقة ثبت في الحديث، نزه النفس؛ فقيه في الحديث متبع يتبع الآثار، صاحب سنة وخير. وكان القاسم بن سلام يقول: انتهى العلم يعني علم الحديث - إلى أحمد بن حنبل، وعلي بن عبد الله المديني، ويحيى بن معين، وأبي بكر بن أبي شيبة؛ وكان أحمد أفقههم فيه، وكان علي أعلمهم به، وكان يحيى أجمعهم له، وكان أبو بكر أحفظهم له. وكانوا يقولون: إذا رأيتم الرجل يحب أحمد بن حنبل فاعلموا أنه صاحب سنة!؟ وإذا رأيتموه يقع في أحمد بن حنبل فهو مبتدع!؟ أما من سمعتموه يذكر أحمد بسوء فاتهموه على الإسلام إ؟ ولقد امتحن محنته المشهورة على أن يقول بخلق القرآن بعد أن قالت المعتزلة وأتباع جهم بن صفوان بذلك متسترين أيام الرشيد ثم مستعلنين أيام المأمون. وبدأ حبس أحمد ولم يلبث المأمون أَن مات وتفاقم أمر المحنة أيام المعتصم حتى ضرب بالسياط ضربا مبرحا أسال دمه، وأوهى مفاصله. وناظره منافقو السلطة على أن يقول بخلق القرآن فكان يفحمهم ويكاد المعتصم أن يقتنع بوجوب تخلية سبيله إلا أنهما ولا سيما أحمد بن أبي دؤاد كان يغري المعتصم به ويلجأ إلى ما يلجأ إليه ضعاف الحجة، حيث كان يقول: إنْ تركته قيل إنك تركت مذهب المأمون، وسخطت قوله، فيهيجه ذلك على ضربه، ويغريه بإدامة حبسه. إلى أن خلى عنه وصار إلى منزله بعد ثمانية وعشرين شهرًا قضاها معذبا في السجن، مضرّجا بدمائه، مسفها في براهينه، مهددا بالموت لحظة بعد أخرى. وما زالت آثار التعذيب تبرح به إلى أن لحق بالرفيق الأعلى. ولقد قال محمد بن علي بن شعيب السمسار سمعت أبي يقول: كان أحمد بن حنبل بالذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كائن في أمتي ما كان في بني إسرائيل؛ حتى أن المنشار ليوضع على فرق رأسه ما يصرفه ذلك عن دينه" ولولا أحمد بن حنبل قام بهذا الشأن لكان عارًا علينا إلى يوم القيامة أن قوما ما سُبِكُوا، فلم يخرج منهم أحد وكانت وفاته - على ما قال الدوري لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبع وسبعون سنة وأيام. =