للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والتأويل الثاني وهو قول مالك: ان مِنْ يراد بها الولي، وعُفِيَ بمعنى يسر لا على بابها في العفو، والأخ يراد به القاتل، وشَيْءٌ هي الدية، والأخوة على هذا أخوة الإسلام، ويحتمل أن يراد بالأخ على هذا التأويل المقتول أي يسر له من قبل أخيه المقتول وبسببه، فتكون الأخوة أخوة قرابة وإسلام، وعلى هذا التأويل قال مالك رحمه الله: إن الولي إذا جنح إلى العفو على أخذ الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه فمرة تيسر ومرة لا تيسر، وغير مالك يقول: إذا رضي الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل بل تلزمه، وقد روي أيضا هذا القول عن مالك ورجحه كثير من أصحابه.

والتأويل الثالث أن هذه الألفاظ في المعينين الذين نزلت فيهم الآية كلها وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة حسبما ذكرناه آنفا، فمعنى الآية فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات، ويكون عُفِيَ بمعنى فضل من قولهم عفا الشيء إذا كثر أي أفضلت الحال له أو الحساب أو القدر.

والتأويل الرابع هو على قول علي رضي الله عنه والحسن بن أبي الحسن في الفضل بين دية المرأة والرجل والحر والعبد، أي من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف، وعُفِيَ في هذا الموضع أيضا بمعنى أفضل، وكأن الآية من أولها بينت الحكم إذا لم تتداخل الأنواع ثم الحكم إذا تداخلت، وشَيْءٌ في هذه الآية مفعول لم يسم فاعله، وجاز ذلك وعُفِيَ لا يتعدى الماضي الذي بنيت منه من حيث يقدر شَيْءٌ تقدير المصدر، كأن الكلام: عفي له من أخيه عفو، وشَيْءٌ اسم عام لهذا وغيره، أو من حيث تقدر عُفِيَ بمعنى ترك فتعمل عملها، والأول أجود، وله نظائر في كتاب الله، منها قوله تعالى:

وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً [هود: ٥٧] ، قال الأخفش: التقدير لا تضرونه ضرا، ومن ذلك قول أبي خراش:

[الطويل]

فعاديت شيئا والدّريس كأنّما ... يزعزعه ورد من الموم مردم

وقوله تعالى: فَاتِّباعٌ رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره فالواجب والحكم اتباع، وهذا سبيل الواجبات كقوله تعالى فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ [البقرة: ٢٢٩] ، وأما المندوب إليه فيأتي منصوبا كقوله تعالى فَضَرْبَ الرِّقابِ [محمد: ٤] ، وهذه الآية حض من الله تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب وحسن القضاء من المؤدي، وقرأ ابن أبي عبلة «فاتباعا» بالنصب.

وقوله تعالى: ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ إشارة إلى ما شرعه لهذه الأمة من أخذ الدية، وكانت بنو إسرائيل لا دية عندهم إنما هو القصاص فقط، والاعتداء المتوعد عليه في هذه الآية هو أن يأخذ الرجل دية وليه ثم يقتل القاتل بعد سقوط الدم واختلف في العذاب الأليم الذي يلحقه: فقال فريق من العلماء منهم مالك: هو كمن قتل ابتداء إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه، وعذابه في الآخرة، وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم: عذابه أن يقتل البتة ولا يمكن الحاكم الولي من العفو، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: نقسم أن لا يعفى عن رجل عفا عن الدم وأخذ الدية ثم عدا فقتل، وقال الحسن: عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة، وقال عمر بن عبد العزيز أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى.

وقوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ نحوه قول العرب في مثل: القتل أوقى للقتل، ويروى:

<<  <  ج: ص:  >  >>