وخلقة الإنسان من أعظم العبر حتى أنه ليس في المخلوقات التي لدينا أكثر عبرا منه في عقله وإدراكه ورباطات بدنه وعظامه، والعلق جمع علقة، وهي القطعة اليسيرة من الدم، والْإِنْسانَ هنا:
اسم الجنس، ويمشي الذهن معه إلى جميع الحيوان، وليست الإشارة إلى آدم، لأنه مخلوق من طين، ولم يكن ذلك متقررا عند الكفار المخاطبين بهذه الآية، فلذلك ترك أصل الخلقة وسيق لهم الفرع الذي هم به مقرون تقريبا لأفهامهم، ثم قال تعالى: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ على جهة التأنيس، كأنه يقول: امض لما أمرت به وربك ليس كهذه الأرباب، بل هو الأكرم الذي لا يلحقه نقص، فهو ينصرك ويظهرك، ثم عدد تعالى نعمة الكتاب بِالْقَلَمِ على الناس وهي موضع عبرة وأعظم منفعة في المخاطبات وتخليد المعارف، وقوله تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ قيل: المراد محمد عليه السلام، وقيل: اسم الجنس وهو الأظهر، وعدد نعمته اكتساب المعارف بعد جهله بها، وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى الآية نزلت بعد مدة من شأن أبي جهل بن هشام، وذلك أنه طغى لغناه ولكثرة من يغشى ناديه من الناس، فناصب رسول الله صلى الله عليه وسلم العداوة ونهاه عن الصلاة في المسجد، ويروى أنه قال: لئن رأيت محمدا يسجد عند الكعبة لأطأن على عنقه، فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد عليه القول وانتهره وتوعده، فقال أبو جهل: أيتوعدني، وما والي بالوادي أعظم نديا مني، ويروى أيضا أنه جاء والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي فهمّ بأن يصل إليه ويمنعه من الصلاة، ثم كع عنه وانصرف، فقيل له: ما هذا؟ فقال:
لقد اعترض بيني وبينه خندق من نار، وهول وأجنحة، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لو دنا مني لأخذته الملائكة عيانا» ، فهذه السورة من قوله: كَلَّا إلى آخرها نزلت في أبي جهل، وكَلَّا:
هي رد على أقوال أبي جهل وأفعاله، ويتجه أن تكون بمعنى: حقا، فهي تثبيت لما بعدها من القول والطغيان: تجاوز الحدود الجميلة، والغني: مطغ إلا من عصم الله والضمير في رَآهُ للإنسان المذكور، كأنه قال: أن رأى نفسه غنيا، وهي رؤية قلب تقرب من العلم، ولذلك جاز أن يعمل فعل الفاعل في نفسه، كما تقول: وجدتني وطننتني ولا يجوز أن تقول: ضربتني، وقرأ الجمهور:«أن رآه» ، بالمد على وزن رعاه، واختلفوا في الإمالة وتركها، وقرأ ابن كثير من طريق قنبل:«أن رأه» ، على وزن رعه، على حذف لام الفعل وذلك تخفيف، ثم حقر غنى هذا الإنسان وما له بقوله: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
أي الحشر والبعث يوم القيامة، والرُّجْعى
: مصدر كالرجوع، وهو على وزن: العقبى ونحوه، وفي هذا الخبر: وعيد للطاغين من الناس، ثم صرح بذكر الناهي لمحمد عليه السلام، ولم يختلف أحد من المفسرين في أن الناهي: أبو جهل، وأن العبد المصلي محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى:
أَرَأَيْتَ توقيف وهو فعل لا يتعدى إلى مفعولين على حد الرؤية من العلم بل يقتصر به، وقوله تعالى:
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى إكمال للتوبيخ والوعيد بحسب التوقيفات الثلاث يصلح مع كل واحد منهما فجاء بها في نسق ثم جاء بالوعيد الكافي لجميعها اختصارا واقتضابا، ومع كل تقرير من الثلاثة تكملة مقدرة تتسع العبارات فيها، وقوله: أَلَمْ يَعْلَمْ دال عليها مغن، وقوله تعالى: إِنْ كانَ يعني العبد المصلي، وقوله: إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، يعني الإنسان الذي ينهى، ونسب الرؤية إلى الله تعالى بمعنى يدرك أعمال الجميع بإدراك: سماه رؤية، والله منزه عن الجارحة وغير ذلك من المماثلات المحدثات، ثم توعد تعالى