قال القاضي أبو محمد: وهذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب ولطف بهم لتنبسط النفوس ويتداخل الناس ويردون الموسم فيسمعون القرآن ويدخل الإيمان في قلوبهم وتقوم عندهم الحجة كالذي كان وهذه الآية نزلت عام الفتح ونسخ الله تعالى ذلك كله بعد عام سنة تسع إذ حج أبو بكر ونودي الناس بسورة براءة.
قوله تعالى:
وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ...
جاءت إباحة الصيد عقب التشدد في حرم البشر حسنة في فصاحة القول، وقوله تعالى: فَاصْطادُوا صيغة أمر ومعناه الإباحة بإجماع من الناس، واختلف العلماء في صيغة أفعل إذا وردت ولم يقترن بها بيان واضح في أحد المحتملات، فقال الفقهاء: هي على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك، وقال المتكلمون هي على الوقف حتى تطلق القرينة ولن يعرى أمر من قرينة، وقال قوم هي على الإباحة حتى يدل الدليل، وقال قوم: هي على الندب حتى يدل الدليل وقول الفقهاء أحوطها وقول المتكلمين أقيسها وغير ذلك ضعيف. ولفظة أفعل قد تجيء للوجوب كقوله أَقِيمُوا الصَّلاةَ، وقد تجيء للندب كقوله:
وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [الحج: ٧٧] وقد تجيء للإباحة كقوله فَاصْطادُوا وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [العنكبوت: ١٧] ، ويحتمل الابتغاء من فضل الله أن يكون ندبا، وقد تجيء للوعيد كقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: ٤٠] وقد تجيء للتعجيز كقوله كُونُوا حِجارَةً [الإسراء: ٥٠] وقرأ أبو واقد والجراح ونبيح والحسن بن عمران «فاصطادوا» بكسر الفاء وهي قراءة مشكلة ومن توجيهها أن يكون راعى كسر ألف الوصل إذ بدأت فقلت: اصطادوا فكسر الفاء مراعاة وتذكرا لكسرة ألف الوصل، وقوله تعالى:
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ معناه ولا يكسبنكم وجرم الرجل معناه كسب ويتعدى إلى مفعولين كما يتعدى كسب، وفي الحديث: وتكسب المعدوم، قال أبو علي: وأجرم بالألف عرفه الكسب في الخطايا والذنوب، وقال الكسائي جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد أي كسب وقال قوم يَجْرِمَنَّكُمْ معناه يحق لكم كما أن لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ [النحل: ٦٢] معناه حق لهم أن لهم النار وقال ابن عباس يَجْرِمَنَّكُمْ معناه يحملنكم.
قال القاضي أبو محمد: وهذه كلها أقوال تتقارب بالمعنى فالتفسير الذي يخص اللفظة هو معنى الكسب ومنه قول الشاعر: [أبو خراش الهذلي] :
جريمة ناهض في رأس نيق ... ترى لعظام ما جمعت صليبا
معناه كاسب قوت ناهض، ويقال فلان جريمة قومه إذا كان الكاسب لهم، وقرأ ابن مسعود وغيره