الساحر كان عندهم في ذلك الزمن أعلى المراتب وأعظم الرجال، ولكن وصفهم موسى بذلك مع مدافعتهم له عن النبوة ذم عظيم وحط، وذلك قصدوا إذ لم يمكنهم أكثر، وقولهم يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ يعنون بأنه يحكم فيكم بنقل رعيتكم في بني إسرائيل فيفضي ذلك إلى خراب دياركم إذا ذهب الخدمة والعمرة، وأيضا فلا محالة أنهم خافوا أن يقاتلهم وجالت ظنونهم كل مجال، وقال النقاش: كانوا يأخذون من بني إسرائيل خرجا كالجزية فرأوا أن ملكهم يذهب بزوال ذلك، وقوله فَماذا تَأْمُرُونَ الظاهر أنه من كلام الملأ بعضهم إلى بعض، وقيل هو من كلام فرعون لهم، وروى كردم عن نافع «تأمرون» بكسر النون، وكذلك في الشعراء و «في» استفهام و «ذا» بمعنى الذي فهما ابتداء وخبر، وفي تَأْمُرُونَ ضمير عائد على الذي تقديره تأمرون به ويجوز أن تجعل فَماذا بمنزلة اسم واحد في موضع نصب ب تَأْمُرُونَ ولا يضمر فيه على هذا، قال الطبري: والسحر مأخوذ من سحر المطر الأرض إذا جادها حتى يقلب نباتها ويقلعه من أصوله فهو يسحرها سحرا والأرض مسحورة.
قال القاضي أبو محمد: وإنما سحر المطر الطين إذا أفسده حتى لا يمكن فيه عمل، والسحر الآخذة التي تأخذ العين حتى ترى الأمر غير ما هو، وربما سحر الذهن، ومنه قول ذي الرمة:[الوافر]
وساحرة السراب من الموامي ... يرقص في نواشزها الأروم
أراد أنه يخيل نفسه ماء للعيون.
ثم أشار الملأ على فرعون بأن يؤخر موسى وهارون ويدع النظر في أمرهما ويجمع السحرة من كل مكان حتى تكون غلبة موسى بحجة واضحة معلومة بينة، وقرأ ابن كثير «أرجئهو» بواو بعد الهاء المضمومة وبالهمز قبل الهاء، وقرأ أبو عمرو «أرجئه» بالهمز، دون واو بعدها وقرأ نافع وحده في رواية قالون:«أرجه» بكسر الهاء، ويحتمل أن يكون المعنى: أخره فسهل الهمزة، ويحتمل من الرجا بمعنى أطعمه ورجه قاله المبرد، وقرأ ورش عن نافع:«أرجهي» بياء بعد كسرة الهاء، وقرأ ابن عامر:«أرجئه» بكسر الهاء وبهمزة قبلها، قال الفارسي وهذا غلط وقرأ عاصم والكسائي «أرجه» بضم الهاء دون همز، وروى أبان عن عاصم:
«أرجه» بسكون الهاء وهي لغة تقف على هاء الكناية إذا تحرك ما قبلها، ومنه قول الشاعر:[منظور بن حبة الأسدي]
أنحى عليّ الدهر رجلا ويدا ... يقسم لا أصلح إلا أفسدا